العدد 1061 - الإثنين 01 أغسطس 2005م الموافق 25 جمادى الآخرة 1426هـ

الإقناع بلا استمالة والاستمالة من دون إقناع

نهج الخطابة السياسية في كتاب بالإيرانية

جهد كبير بذله أستاذ فلسفة التربية بجامعة الكويت صادق إسماعيل لتعريف كتاب "نهج الخطابة" الذي صدر حديثا بحلة قشيبة عن مكتبة الفلاح الكويتية بخمسمئة وخمسين صفحة من القطع الكبير.

الكتاب "آئين سخنوري" للمؤلف رئيس وزراء إيران ووزير التربية خلال النصف الأول من القرن الماضي محمد علي فروغي، وقام بتأليف الكتاب بطلب من وزارة التعليم العالي لتدريسه في الجامعات الإيرانية وليكون مرجعا للأساتذة والباحثين والبرلمانيين والخطباء والمرشدين الدينيين، إذ لعب الكتاب دورا ثقافيا حاسما أدى إلى إعادة طبعه مرات عدة. ونظرا إلى الأهمية الأكاديمية لهذا الكتاب قام صادق إسماعيل بتعريبه لتعريف المتحدثين بالعربية على ثقافات الشعوب الأخرى، وقد اهتم المترجم بتعريب النصوص بدقة وأمانة مدونا الموضوعات بطريقة شيقة تصلح أن تكون مادة للدراسة في الجامعات العربية ودليلا لكل أولئك الذين يرغبون في التأثير على الآخرين وإقناعهم بواسطة الخطابة.

والخطابة هي أحد الفنون النثرية ووظيفتها الإقناع عبر المشافهة، إذ اهتم النقاد العرب بمواصفات الخطيب والأداء والنص فاشترطوا جهارة الصوت وجمال الهيئة وحسن النبرة وسلامة اللسان وحسن الإلقاء ورعاية الإيجاز. والخطابة فن يسعى المتحدث من خلاله إلى إقناع المستمع واستمالته إلى وجهة نظره، وان بلاد فارس شهدت خطباء كثرا، إلا أن جل آثارهم القديمة قد اندثرت ومن غير الممكن أن تعيش أمة حياة حضارية قرونا طويلة ولها علماؤها ثم لا يكون لها خطباء، ثم إن الكتاب العرب في صدر الإسلام تحدثوا عن خطابة الإيرانيين ووصفوها للآخرين وكان الخطباء يمارسون هذا الفن بشكل عفوي وانطلاقا من مواهبهم الذاتية إلا أننا لا نملك المصادر والآثار التي تبين أي نوع من الخطابة كان شائعا ومنتشرا في هذه البلاد.

الإقناع بلا استمالة

ويشير الكتاب إلى أن الإقناع بلا استمالة يكون عديم التأثير، كما أن الاستمالة من دون إقناع لا تدوم. والإقناع مهمة العالم والحكيم بينما الاستمالة هي مهمة الخطيب. إذا، فالمتحدث الكامل هو الذي يكون عالما وخطيبا في آن واحد.

ويشترط في الخطابة أيضا أن يكون موضوع الحديث جذابا وأن يستميل قلب السامع لا أن ينفره. والخطابة تختلف عن التلاعب بالألفاظ، فتنميق الكلام الباطل والرخيص بالألفاظ البراقة ليس من البلاغة، إذ البلاغة الحقيقية هي أن يقول المتحدث كلاما جديدا غير ما يتحدث به الآخرون، وأن يتحدث بأسلوب يحقق هدفه، أي أن يكون كلامه معقولا وملائما للحال حتى يرضي العقل، ويجذب القلب، ويحرك المشاعر، ويطلق العنان للخيال.

أما التكلف في الخطابة فإنه ليست له تلك التأثيرات التي ذكرناها، فالشخص المتردد أو المنافق والماكر لا تأثير لكلامه، إذ الكلام المؤثر هو الذي يخرج من الأذهان المخلصة والقلوب النظيفة. وإذا ما شوهد خطيب وكان كلامه مؤثرا إلا أنه اكتشف فيما بعد أن قلبه لم يكن نظيفا، فلابد أنه كان متحمسا بكلامه حينما أثر في النفوس، إذ ليس ضروريا أن تكون حالات الإنسان واحدة في كل الأوقات، وحتى لو كان كل الكلام المتحدث وفي كل الحالات مبنيا على التكلف والتزوير، وفرضنا أنه كان مؤثرا، فإن تأثيره لا يكون مستمرا، لا يمكن أن تبقى حقيقته مستورة، وحينما يكتشف أمره فإن الناس ينفرون منه ومن أعوانه ومن علمه، وتتبدل الحرارة الظاهرية إلى برود قاتل.

تأثير الخطاب السياسي

ومن شروط تأثير الخطاب السياسي هو أن يرى المستمعون في الخطيب رجلا يتحرى مصلحة الشعب والحكومة بعيدا عن الأغراض الخاصة، أمينا، صالحا، عالما، حكيما وصادقا وأن يكون كلامه شاهد صدق على توافر هذه الصفات فيه، وأن يتحدث عن إيمان وإخلاص، ولا شك في أننا لا نستطيع أن نتوقع من رجل السياسة ألا يخطأ أبدا، ولكنه يجب أن يكون مؤمنا بما يقول، وألا يهدف خداع الناس بذلك.

وشرط آخر، أن يعرف الخطيب السياسي طبيعة الجمهور الذي يتحدث إليه والعوامل المؤثرة عليه، وأن يعرف: ما هي ظروفهم الحالية؟ وفيم يرغبون؟ وما الذي يحتاجونه؟ ومم يهربون ويخشون؟ وأين تتجه عواطفهم ومشاعرهم؟ وبعبارة أخرى على الخطيب أن يكون على وعي بنفسيات المستمعين ومن يريد أن يستميلهم إلى اتجاهه.

الاستبداد والتشدد

وينبغي ألا يتصف الخطيب السياسي أثناء إلقاء الخطاب بالاستبداد والتشدد والغرور، إلا أنه ينبغي أن يكون واثقا بصدق كلامه وأن يتحلى بقوة الإرادة والشهامة والشجاعة الأخلاقية، وإذا كان واثقا بصدق وسلامة كلامه، فإنه - وفي موقف الدفاع عن مصلحة البلاد - لا يأبه بالضرر بل الخطر المحتمل الذي قد يواجهه شخصيا، بل إنه لا يتردد في التضحية بسمعته الطيبة وشعبيته إذا ما وجد الأخطار تحدق ببلده، ولا ينسى أنه لو كان يقول الحق صادقا فإن الضرر الذي يلحق به ضرر محدود ومؤقت، بينما لو جانب الحق في خطابه وترتب على ذلك ضرر فإنه سيكون ضررا عاما وشاملا ودائما.

على الخطيب السياسي دائما أن يضع نصب عينيه رب العالمين والعدالة والإنصاف والمرؤة والشرف، وأن يقود الجمهور إلى الطريق القويم، وأن يهدف تحقيق مصالح وكرامة الشعب والحكومة وخير البشرية، وأن يتذكر دائما أنه لو وقع كلامه مؤثرا في النفوس فإنه سيكون سببا لسعادة وفلاح جماعة كبيرة أو عاملا لشقائها ودمارها.

على الرجل السياسي - قبل أي خطيب آخر - أن يتحدث من دون تكلف، وبشكل بسيط وطبيعي، وأن يهتم بتنميق الحديث، بل يرى جمال كلامه في صدق الموضوع وجوهره ومعناه. على الخطيب أن يعتبر منبر الخطابة مكانا مقدسا وأن يحترمه، لا يرتقيه بغرور ولا مبالاة ولا يستهين بأمر الخطابة.

خطابة كالمصارعة

وتكون الخطابة السياسية أحيانا كالمصارعة، فقد يواجه الخطيب خصوما أقوياء ينهضون لمعارضته، فيثيرون اللغط وسط كلامه، ويحدثون الفوضى وتقع أمور وتلفظ عبارات غير متوقعة، لذلك ينبغي أن يكون سريع البديهة، فلا ينهزم نفسيا، ويحافظ على هدوء أعصابه، ولا يجانب الوقار والاتزان.

ربما لا يكون بإمكان الرجل السياسي تجنب المعارضات الشخصية، إلا أن من واجبه ألا يتجاوز حدود الأدب والعقلانية في كل الحالات، وينبغي ألا يبدي المعارضة السياسية وكأنها عداء شخصي. وفي الصراعات السياسية ينبغي عدم نسيان هذه المعادلة: "المودة مع الأصدقاء والمداراة مع الأعداء". وقد يضطر الخطيب إلى الاستخفاف بالطرف المقابل أو السخرية منه، إلا أنه يجب أن يكون ذلك بذوق رفيع وبأسلوب لا يستتبع لوم المحايدين.

وقد يتطلب الأمر في الخطابة السياسية اللجوء إلى المزح والمفاكهة إلا أنه يجب ألا يتكرر كثيرا ولا يثير السخرية والاستهزاء. ولابد من احترام آراء الآخرين لدى نشوب النزاع ومخالفة الخصوم. وعموما، كلما كان الخطيب مؤدبا مع الآخرين كان ذلك أدعى إلى حفظ كرامته.

ينبغي أن يركز الخطيب في المرحلة الأولى على ما يريد أن يقوله، إذ يهدف من خطابه إلى ثلاثة أهداف: الأول، الإقناع وذلك بجعل المستمعين يؤمنون بما يقوله. الثاني، استمالة قلوب المستمعين وذلك لكي يهتموا بحديثه. الثالث، إثارة النفوس وبث الحماس في المستمعين. ولكل هدف من هذه الأهداف وسيلته الخاصة به. فالإيمان يأتي من خلال الإثبات بالدليل، واستمالة القلوب يتحقق من خلال الآداب والحركات التي يعكسها ويعرضها المتحدث عن نفسه، وبث الحماس يكون من خلال تحريك المشاعر والعواطف، فبالأدلة يتم التحكم بالعقول، وبالأخلاق الحسنة تستقطب القلوب وبالحماس ينبغي تهييج النفوس. وخلاصة القول: إن من شروط البلاغة وتأثير الكلام هو أن يكون المتحدث محل ثقة المستمع، وأن يكون كلامه معقولا، وفكره سليما، واستدلاله صحيحا، وقلبه متحمسا، ولسانه دافئا، وأن يكون الخطيب عارفا بأحوال الناس، وجمال التعبير، ووضوح البيان، ودقة الأداء.

مرجع أكاديمي

الكتاب مرجع أكاديمي صادر عن مؤلف مارس الخطابة وتمرسها ودون عصارة تجاربه على الورق لتأتي مبادرة صادق إسماعيل لتملأ في المكتبة العربية مكانا كان شاغرا، فهو مرجع لا يستغني عنه أي مدرس أو نائب برلماني أو مسئول حكومي، إذ يجد فيه مفاتيح الإقناع ورموز التأثير على المتلقي بأسلوب علمي رصين، وهو حلقة في سلسلة التحاور الحضاري العربي الإيراني بالاستعانة من جسر التعريب والترجمة الذي يعتبر همزة الوصل في ربط البلدين الجارين إيران والكويت.

ولا يفوتني التنويه بالمستوى الأكاديمي الرفيع لصاحب الترجمة، إذ تجلى في البحث العلمي المستفيض وخلو الكتاب من الأخطاء المطبعية ودقة الهوامش والمراجع





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً