أنهى رئيس الوزراء العراقي إبراهيم الجعفري في التاسع عشر من يوليو/ تموز الماضي زيارة لطهران وصفت بالمهمة تم خلالها التوقيع على عدة اتفاقات في المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية أهمها إنشاء خطي أنابيب بين البصرة وعبدان لنقل النفط العراقي الخام وتكريره وآخر لنقل المشتقات النفطية التي يحتاج إليها العراق وتوقيع مذكرة تفاهم لوصل مدينة البصرة بشبكة الكهرباء الإيرانية في عبدان واستخدام الموانئ الإيرانية كمحطات تصدير واستيراد من وإلى العراق.
الزيارة وعلى رغم أن التركيز عليها انصب على الجوانب المذكورة؛ فإن هدفها الرئيسي يتعلق بما يدور من حديث عن نية واشنطن إعادة فرز خططها العسكرية والسياسية في العراق بعد التفاقم المخيف للأوضاع الأمنية فيه، فالإدارة الأميركية "اليمينية" وقبل احتلالها العراق في أبريل/ نيسان 2003 كانت منقسمة إلى محورين الأول تقوده وزارة الدفاع ورامسفيلد تحديدا وبمعيته مجموعة مؤثرة من اليمين المسيحي بينهم بول ولفوفيتس وريتشارد بيرل واليوت أبرامز يدعو إلى تحطيم مؤسسات الدولة العراقية وإعادة تشكيلها وتكيفيها بالشكل الذي يخدم مصالح واشنطن، وكان يناصرها في ذلك زعيم المؤتمر الوطني العراقي أحمد الجلبي، في الجهة المقابلة تقف وزارة الخارجية الأميركية ووزير خارجيتها كولن باول تحديدا الذي كان يدعو إلى الإبقاء على هياكل الدولة المدنية لتفادي وقوع أي فراغ إداري يفضي إلى إرباك في تسيير شئون الدولة المصرفية والمالية والخدمية.
والآن وبعد نحو أكثر من عامين على دخول القوات الأميركية العاصمة بغداد تبين أن الرأي الذي ذهبت إليه وزارة الدفاع كان خاطئا بل كلف الإدارة الجمهورية الكثير من الخسائر وأفقدها صدقية كبيرة بين الأميركيين، فالتقارير تشير إلى أن الهجمات على القوات الأميركية وصلت في أسوأ حالاتها إلى 700 هجوم في الشهر، وأن الأميركان خسروا نحو 1700 جندي و26 ألفا إلى 54 ألفا من الجرحى نصفهم إصاباتهم بليغة ولا يستطيعون العودة إلى الجيش بحسب مصادر البنتاغون، كما أن نحو سبعة من كل عشرة عراقيين بالغين هم من دون عمل، وفي تقرير لفريق الباحثين من مركز الطوارئ والكوارث الدولي التابع لجامعة جونز هوبكنز "الأميركية" ونشر في مجلة "لانسيت" أشار إلى أن نحو 100 ألف عراقي قد ماتوا منذ بداية الحرب ولغاية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، نصفهم من النساء والأطفال، بل إن واشنطن وفي غمرة غثيانها بنشوة النصر، دفعت بالجنرال جي غارنر "الذي كان مسئولا عن إعادة إعمار العراق قبل مجيء بول بريمر" لأن يبدأ عملية توزيع ومحاصصة انتقائية مع الشركات الاميركية التي يمتلكها اليمين المسيحي وبعض رجالات البيت الأبيض كديك تشيني "نائب الرئيس الأميركي" من دون طرحها لمناقصات عالمية.
المهم أن الإدارة الأميركية وفي عملية فرزها للأمور مرة أخرى توصلت إلى ضرورة تغيير سياستها تجاه العراق والعودة إلى تجريب نظرية وزارة الخارجية في إعادة إحياء ما قامت بتدميره من مؤسسات، واستجلاب بعض عناصر حزب البعث المنحل وقد بدأت في الدفع بذلك الاتجاه عبر تكليف إياد علاوي بتشكيل ائتلاف سياسي مضاد للائتلاف الشيعي الموحد الذي يدعمه السيدالسيستاني يضم بعثيين سابقين وعلمانيين وبعض رجـال الدين.
وهي في سبيل ذلك ستسعى إلى:
1- إفشال حكومة الجعفري عبر إرخاء القبضة الأمنية لفتح المجال أمام المزيد من عمليات التفجير الإرهابية في صفوف المدنيين الأمر الذي يفقد حكومة الجعفري جزءا كبيرا من صدقيتها بين العراقيين وبالتالي شعبيتها في الداخل والخارج.
2- استقطاب بعض رجال الدين وضمهم إلى الائتلاف الجديد كحسين الصدر وإياد جمال الدين بغرض استحلابهم باعتبارهم يمثلون موقعا دينيا.
3- استخدام المال السياسي بغرض تغيير خريطة الولاءات الحزبية والسياسية في العراق وخصوصا الحد من النفوذ الإيراني في العراق.
4- الاستفادة من حال تفكك الائتلاف الشيعي وخصوصا ما بين حزب الدعوة الإسلامية بقيادة إبراهيم الجعفري والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق بزعامة السيدعبدالعزيز الحكيم، وأيضا ما بين حزب الدعوة المشار إليه والحزب المنشق عنه وهو حزب الدعوة الإسلامية تنظيم العراق برئاسة عبد الكريم العنزي، بالإضافة إلى التباينات ما بين زعيم المؤتمر الوطني العراقي أحمد الجلبي وحسين الشهرستاني القريب من السيدالسيستاني.
5- استثمار توجس كل من مصر والسعودية والأردن من صعود النفوذ الشيعي في العراق واستخدام ذلك لتمرير المشروع وجعله يحظى بدعم وتأييد إقليمي.
6- محاولة إذكاء مخاوف السنة العراقيين من أن العراق القادم سيكون محصورا بين سلسلة جبال حمرين غربا كبقعة جغرافية مكونة لدولة كردستان المستقلة، ودولة شيعية ممتدة من سامراء إلى الفاو في الجنوب، وهو ما يعني القضاء على أكثر من ستة ملايين سني سيذوبون وسط هذا التقسيم الطائفي والإثني.
وأمام هذا المخطط الأميركي الجديد فإن المرجعية الدينية في العراق وحكومة الجعفري تواجه مرحلة صعبة للغاية ينظر إليها على أنها مفصلية وتتطلب إيجاد منظومة جديدة من التحالفات، وهو الهدف الحقيقي لزيارة الجعفري لطهران التي يمكن أن تشكل دولابا صلبا لائتلاف سياسي متقدم يتم الاستقواء به لمواجهة المشروع الأميركي الجديد نظرا إلى إمكاناتها كدولة مهمة في المنطقة من جهة، ولما تمثله من عمق إسلامي "شيعي" من جهة أخرى، كما أن الفرقاء العراقيين الموجودين في السلطة الآن يتوجب عليهم تأجيل كل ملفات الخلاف في الائتلاف الشيعي إلى أوانها، منعا لأي احتراب حزبي لن يفيد أحدا في ظل معركة الإقصاء الحاسمة.
* كاتب بحريني
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1060 - الأحد 31 يوليو 2005م الموافق 24 جمادى الآخرة 1426هـ