«هذا المشروع أساساً يعتمد على حلقة وصل ما بين كل تاريخي، وهو معرض استعاد في جزء منه أعمال من الثمانينيات لغاية التسعينيات وما بعدها، والقاعة الثانية تحتوي على مجموعة أعمال مشروع تواري الأشياء والقارئ الجيد سيرى أنني لم أكن خائفاً من أن ألتزم باتجاه معين أعرف به، وأتمسك به، وأقولب نفسي فيه لكي يبقى علامة تدل علي، وقد جربت أكثر من مدرسة وتفاعلت في ذلك سنوات عديدة، وستلقى أن الفكرة الأساسية هي عملية التواري ومفهومها وما أستشعره من خلال أي شيء أو أي كتاب مقدس، فأنا أتوارى شخصياً وراء العمل، وأنت تراه وتستمتع به، وذلك قائم على تخبئة بعض الأجزاء وكشف جزء آخر وهو ما أريد كشفه بما يعكس رؤية معينة، المعرض قائم على عملية الكشف والإخفاء والتناقض ما بين الأشياء» هذا ما صرح به الفنان حازم طه حسين في معرضه «تواري الأشياء» بدار البارح حين تحدث عن الرؤية التي يقدمها من خلال مجموعة الأعمال التي اشتغل عليها في هذا المعرض. كيف استطاع الفنان حازم طه حسين المحافظة على خصوصية الإبداع وذاتيته في مقابل التخصص الأكاديمي الذي يعلّبه الفنّان ويقولبه في أشكال وأطر محددة؟ - كان ذلك بالإكثار من الاشتغال الفني، فالفترة التي اشتغلت فيها كانت تعطي الفرصة للفنان والباحث والمعلم هذه المسافة بين الفن والأكاديمية، وفي حقيقة الأمر هذه تركيبة أخذتها من والدي ووالدتي في كيفية المحافظة على هذه المسافة، وهي عملية نظام وإرادة. وقد تعودنا أن كلمة البحث والأكاديمية هي عملية تأكيد لما كان وليس إيجاد الجديد، وهذا اعتبره فخ وقعنا فيه منذ الستينيات، ففي مصر وسوريا والعراق ابتدأت هذه الهوجة تخرج وكأننا لا نعمل شيئاً سوى قولبة ما هو موجود، فمثلاً جمال حمدان يكتب والآخرون يكتبون ما كتب، الأستاذة نعمات أحمد فؤاد تكتب ما تكتب والآخرون يكتبون ما كتبت، وهذه عملية إعادة واستعادة، ونقطة القولبة في الفن التشكيلي من أخطر ما يمكن لأنها هنا مفتوحة وواضحة مباشرة، أما في المجالات الأخرى فالقولبة غير واضحة، لكنها موجودة، لأنها فكرة اجتماعية، هي ليست داخل المجال الفني فقط، هي موجودة داخل المدارس، وداخل المجتمع، نحن نعيد ونزيد فيما عمل قبلنا، وروح الإبداع والمخاطرة قادمة من تربية الطفل على روح المغامرة، فهو يغامر بالذي يعرفه ويخرج منه ليحاول في شيء جديد. وهذا ما أؤكد عليه إذ لا بد من الخروج من القولبة وإعادة التركيب والتفكيك والإبداع. - كيف يستطيع الفنان الخروج من خصوصية المكان والزمان لتمثيل رؤية رحبة قادرة على التواصل مع الآخرين بالخصوص مع المتلقي الآخر. كيف يستطيع الفنان مفارقة الخصوصية الإبداعية المكانية والزمانية لمخاطبة أكثر من متلقٍ أو ناظر للعمل الفني. العمل الفني هذه الأيام بالذات في المنطقة العربية يحتم على أي إنسان يعمل ككاتب أو شاعر أو خطاط أن يحاول بجدية تفهم معنى الخصوصية ومعنى الإضافة والتنقيح. وفي هذه الأيام نحن كعرب وضعنا في موقع لا نحسد عليه، وعملية مخاطبة الآخر من أخطر ما يمكن، فمثلاً اليابان وكوريا تخاطب الآخر عبر الهوندا والتويوتا والصانع يخاطب العالم بهما وهما سفير لبلاده، نحن كعرب ماذا أنتجنا لمخاطبة الآخر، إن عملية البحث عن سبل جديدة لمخاطبة الآخر أمر مفروض علينا لأن ثقافتنا فيها سماحة كبيرة ولسنا أشراراً ولا متخلفين إطلاقاً. ما موقعية العمل الفني وخصوصيته في الخطاب في ظل التماهي مع الآخر وتقليده على مستوى الأدوات الفنية والرموز والتي أصبحت لغة عالمية ولغة تواصل مفهومة، في ظل تجاوز خصوصية الطابع الشرقي في الفن؟ - قلما تلقى فناناً ركّز على طابع الفن الشرقي كمفهوم، ومعظم الفنانين الكبار الذين استخدموا الخط العربي استخدموه بشكل لا إرادي بمعنى أنه لا أحد أثقل على نفسه ليشتغل على الخصوصية، كما أنه لم يدخل الفن الحديث الشرقي إلا مبكراً، فالتصوير نحن حديثون فيه ولا يتجاوز ذلك المئة وخمسين عاماً فقط، في الوقت الذي كانت إيران والعراق ودول الشرق ترسم توقفنا نحن عن عملية الرسم حين كان لدينا التصاق شديد بالدولة العثمانية إذ توقفت فنون الرسم والتماثيل. وأساتذتنا الكبار هم الذين نقلوا التجارب التأثيرية أو الانطباعية. ونحن هنا في مرحلة تنقيح بعد مئة خمسين عاماً من التجارب الجادة في كل المنطقة العربية، لدينا فرصة كبيرة لإيجاد شيء يعطى الانطباع أنه من الشرق. يعكف بعض الفنانين على الاشتغال بمادة واحدة وصناعة الألفة معها ومراكمة الخبرة بها، والبعض ينوع في ذلك ويخرج إلى عوالم رحبة، كيف يستطيع الفنان التواصل مع أكثر من مادة في ظل تنوع المواد واتساع مجالاتها وتوظيفاتها، ألا يصنع ذلك حالة من التعدد الذي يضيع تركيز الفنان ويشتته في ظل زحمة المواد الكثيرة وعدم التركيز على مادة ومحاولة اكتساب الخبرة فيها بشكل أكبر؟ - الفنان ليس ببعيد عما ينتجه العلم بل هو رد فعل له وبعض الفنانين استخدموا البوليستر والإكرليك ومواد أخرى، إن عملية التعود وأن يحصل حوار بين الصانع واليد لتفهم لخواص الخامة وأن تعبر الخامة عما يريده الفنان هذه عملية تأخذ مراحل ومراحل، وبعض الفنانين لا يستطيعون السيطرة على الخامة وهي تحيّرهم ويصبح هو عبداً لجبروت الخامة التي يستخدمها ويستخدم قوته في التقنية وهذا يضعفه، وهناك فنانون يستطيعون من غير أن يتشتتوا فما عمله فببيكاسو في النحت عمله في الخزف وعمله في التصوير وعمله في الحفر فثمة رؤية متكاملة، هو لديه مفهوم والخامة ليست مهمة. فمثلاً والدي محمد طه حسين اشتغل على السجاد والحديد والخزف وعمل في النحت والتصوير ولكن بنفس الرؤية والأشياء كانت تعبر عنه، وكلمة الرؤية فيها بعد وهي متجددة. نعم الخامة لها جبروتها نحن أحياناً نستهين بالخشب أو غيره بينما أي خانة لها جبروتها وخواصها وإذا لم يكن الصانع (صنايعي) حرفياً لن يعرف كيف يطوع خامته وفاقد الشيء لا يعطيه. لا بد أن يكون الفنان صنايعياً من غير أن تخونه فكرة الصنعة ويذهب لجزئية الرؤية. كيف يستطيع الفنان أن يوائم بين رؤيته البصرية وبين خصوصية الأشياء في الكون ودلالتها المستقلة فثمة تعبيرية في الشكل وتعبيرية في المادة، فكيف يستطيع الفنان أن يعبر عما في ذاته من خلال هذه الأدوات التي لها لغتها الخاصة؟ - لكل خامة سيمانتيكيتها ومعناها فالحديد يعطي الصلابة والإشراق والبرودة والخشب يعطي الدفء والزجاج يعطي الشفافية ولكن وجود الخامة بشكل معين في ثقافة ما يعطي الدلالة كاملة بمعنى أننا لوذهبنا لإفريقيا أو بعض الأماكن للقيناه يطرق الحديد كما كان يطرق الأسبقون. أما في ألمانيا فهذا الأمر قد انتهى، ولكل خامة ثقافتها وبالسياق التي هي فيه تعطي المفهوم والإيحاء الثقافي وبحسب الأرضية الثقافية أو الصناعية أوالاجتماعية أو الاقتصادية للبلد نحصل على معنى جديد لمفهوم الخامة والعنصر. أستاذنا الكبير ماهر رأفت وكذلك العراقي حسن شاكر السعيد اشتغلا وانتبها لهذا الأمر وخصوصا حسن السعيد الذي عاصر التصوف في نهايته، وهذه الحالة كانت حالة مخصوصة جدا والغريب أن الاثنين دخلا في كينونة الخط العربي وأنا اشتغلت على ذلك أيضاً وكتبت عنها كتاباً بالألمانية عن عقلانية الحرف. هنا أنت لديك بحث في الطبيعة وثمة نظرة جزء منها أخلاقي وجزء منها فيزيائي وجزء منها إبداعي ودائماً هناك تساؤل عن وظيفية الأشياء في الكون، فهل الحديد هو حماية أم هو سلاح يضرب به، هل هو جاروف لحمل الأشياء، أو سلاح يدمر. وثمة تساؤل هل عندنا الفرصة كعرب أن نضيف مفهوماً جديداً لما نملكه من خامات هذا هو التحدي. اشتغلت على المشربية وإعادة تشكيلها زخرفياً وفنياً، كيف يوائم الفنان بين وظيفية الأشياء والأدوات التي يستخدمها الإنسان في بيته وفي حياته اليومية وبين التوظيف الفني لها في عمل ما. - وظيفة العمل الفني الأساسية يغلب عليها الجانب الجمالي وهو يعطي الفنان خصوصية، وإن النظر لأي خامة قائم على مفاهيم ومواضيع مختلفة، والإنسان نفسه هو الذي يراها في تاريخه أو في تاريخ الآخرين بمنهجية منطقية وبنظام، وعملية الخصوصية في المنتج إنما تخاطب الفنان الذي يجب أن يكون من الذكاء والحس و الوعي وهو يستخدم الخانة في أي بيئة ولماذا ومن الوعي أيضا أنه يخاطب مجموعات متسائلا بأي شكل يخاطبهم، والفن عمره ما كان فقط لتجميل الحوائط، ولو رجعت للتاريخ فحتى (الليتوجراف) على الحجر كانت لها وظيفة سياسية، ففي فرنسا كانت عملية توثيق للطاعون، ولو نظرنا للأهرامات فقد كانت لها وظيفة في زمنها ونحن نراها الآن بشكل جميل، وكذلك الأعمال الجميلة التي نراها في روما من تماثيل ووجود الشكل الخرافي للجسد بعضلات غير موجودة في الطبيعة، أو قلما تراها فهنا ثمة تضخيم لفكرة الامبراطورية وتأليه الحاكم المنتصر، والرأس بين يديه، هنا العملية لها وظيفة، وحتى زهرة التيولب كانت غالية جداً في القرن السابع عشر كانت الناس حين تشتري اللوحة كأنها تريد القول من خلال ذلك أنها من الطبقة الراقية، فالعمل الفني دائماً كان له وظيفة وارتباط بما يحدث في المجتمع، وهنا حين نكسو الحوائط كلها بموتيفة واحدة زخرف واحد مكرر ونحن في الموسيقى نحب التكرار ونعيد كذلك التسبيح والعبارة تقول في الإعادة إفادة والغرب حين رأى هذه الظاهرة عبر عنها (بالأوبتكل آرت) خداع بصري سمّاها بالخداع البصري والأوفر أول أو الجشطالت بالألمانية وذلك في زخرفة الجامع المكسي، كله بهذا الزخرف والذي يتكرر على جميع الحوائط، وعين المصلي تهرب من نقطة إلى نقطة وهذه عملية مقصودة كأن لها وظيفة، ونحن نقول الله هذا شيء جميل الألوان جذابة وتحصل للناظر راحة نفسية ولا نتساءل ماذا كان يقصد المصمم المسلم من هذا؟ لقد كان يقصد هذه الحالة تماماً وأن يركز فكر المتعبد داخل هذا الصرح وأنه يبقى مرتبطاً فقط بالخالق الواحد المتعدد في الأشياء. وعينه تتنقل من بؤرة لبؤرة وعملية التكرار مقصودة وليست مجرد كسوة للحائط . كيف يستطيع الفنان رؤية العالم من خلال أدواته الفنية في ظل تعدد الرؤى وضبابية الكشف عن المعنى وتعدد معاني الأشياء؟ - الاشتغال على المعنى كان لدينا منذ القدم لو رجعنا إلى ابن عربي أو حازم القرطاجني أو ابن الجني لوجدنا ذلك والمعنى ثلاثي والرابع هو الخالق وفي المنظور الغربي الرابع هو الخلاصة والخلاصة عقلانية هذا هو الفرق الواضح الصريح، فثمة الشكل والمفسر والموضوع، الشكل هو الوسيط إذا كان الفنان يستخدم بلاستيك، أو ألواناً زيتية، أو حديداً أو خشباً، والمفسر الذي هو المتلقي كيف يتفاعل مع هذه الخامة، والموضوع هو الهدف، والجمع بين هذه العناصر يعطي المعنى المتكامل، وفي الغرب المعنى المتكامل واضح وهو أن الإنسان عمل ذلك، أما في الشرق فالفعل من الخالق وهذا هو البعد الثالث (الميتا) أي ما وراء الأشياء من الموجودات والماديات، وأنت لديك الفرصة أن ترى عملك الذي تصنعه من خلال الأبعاد الأربعة التي أمامك إما أن تدخل بهذه المنهجية أو تلك وكذلك الأمر في الاستشراق والاستغراب، ودائما ثمة آليات بحثية تستطيع بها قراءة تاريخك وعلم العلامات موجود والمفسر أو المؤرخ من المؤكد أنه سيضع ذاتيته، حين يكتب التاريخ لأنه بالطبع غير موجود في زمن أفلاطون أو في زمن المماليك حين يكتب عنهم هو سيأخذ حدثاً من هنا أو هنا ثم سيكتبها بطريقته فلنجرب أن نضع ذاتيتنا في شغل أجدادنا وبالتالي نحن هنا لن نقفل على أنفسنا بل سنعيد الصياغة وستكون هناك حركة توعية لإعادة كتابة التاريخ بآليات، من الصحيح أننا سنأخذها من الغرب ولكن مع الوقت ستكون لدينا الآليات الخاصة بنا.
العدد 2960 - الأربعاء 13 أكتوبر 2010م الموافق 05 ذي القعدة 1431هـ