تناولنا في الفصل السابق القبائل العربية البائدة أو تلك القبائل التي لم يعرف اسمها القبلي لأنها موغلة في القدم ولأنها ذابت في شعوب أخرى وتحولت لشعوب حضرية دون أن يوثق اسمها القبلي. وفي فترات لاحقة من التاريخ نزحت قبائل عربية جديدة لشرق الجزيرة العربية وهذه القبائل الأخيرة تم توثيق اسمها ومعاركها ورحلاتها بصورة دقيقة من قبل الأخباريين أي في الكتب العربية القديمة. وقصص تلك القبائل موثقة جيداً في العديد من المراجع القديمة والحديثة ولسنا هنا في معرض إعادة سرد تلك القصص الكلاسيكية ولكننا نريد تحديد بعض النقاط الأساسية التي أهملت في المراجع القديمة وأهملت في العديد من المراجع الحديثة أو أنها لم توثق بصورة جيدة, وهي تتمحور حول تسلسل استيطان الشعوب التي سبقت القبائل العربية وتواريخ استيطان تلك الشعوب وتواريخ استيطان القبائل العربية.
لقد حدث تغير واضح في الفترة الواقعة بين القرن الأول قبل الميلاد ونهاية القرن الأول الميلادي سواء على المستوى اللغوي أو مسميات المجموعات السكانية التي تعيش في المنطقة, ويمكننا ملاحظة هذه التغيرات من عدة معطيات منها مقارنة أسماء المواضع أو القبائل التي ارتبطت بشرق الجزيرة العربية والتي وردت عند الكتاب اليونانيين عبر التاريخ فنلاحظ أن الأسماء التي ذكرها كل من سترابو (63 /64 ق.م - 24م) وبليني (24 /23 - 79م)، على سبيل المثال الأسماء Gerrhaioi، Carrei، Agraei، Gattaei، Caunaravi، Ammoni، Choani لا علاقة لها بالأسماء التي تخص شرق الجزيرة العربية التي ذكرها بطلميوس والذي أنجز عمله الجغرافي قرابة عام 150 ميلادي والذي نجد فيه الأسماء التالية على سبيل المثال Abucaei,Lainaniti ، Thaemi, وفي الواقع يتضح أن التوافق الوحيد بين لائحتي الأسماء هو ذكر Gerrhaioi (بوتس 2003: ج2, ص 985 - 986). علينا هنا أن نرجح وجود عمليتين أدتا لتغيير الأسماء, تغيير في السيادة أو السيطرة السياسية وكذلك عملية إحلال قبائل مكان قبائل أخرى, فعملية الحروب بين القبائل وعملية طرد قبائل من المنطقة موثقة جيداً كما سنرى لاحقاً.
ويلاحظ أنه لم يتم العثور على نقوش باللغة الحسائية يعود تاريخه لبعد العام 100 ق. م. (بوتس 2003: ج 2, ص 771), بينما يرجح بداية استيطان القبائل العربية اللاحقة في قرابة نهاية القرن الأول بعد الميلاد أو بداية القرن الثاني بعد الميلاد (بوتس 2003: ج2, ص 994) ويرجح أنه في خلال هذه الفترة (100 ق. م. - 100م) بدأت الشعوب المستوطنة في شرق الجزيرة العربية تستخدم اللغة الآرامية والتي بدأ استخدامها خلال القرن الثالث المتأخر قبل الميلاد (بوتس 2003: ج2, ص 771). وقد تم العثور على عدد قليل نسبياً من النقوش الآرامية في جزر البحرين وشرق الجزيرة العربية وفيلكة والإمارات العربية المتحدة (Healey and Seray 2000). وقد أثار وجود النقوش الحسائية والنقوش الآرامية في تلك المناطق قضية وجود الشعوب الكلدانية في هذه المناطق وهو أمر يشكك فيه عدد من الباحثين وربما اعتبر تواجدهم في المنطقة اقرب للأسطورة منه للحقيقة.
ظهر الكلدانيون لأول مرة في التاريخ في وصف حملة «آشور ناصربال» الثاني ضد «مالت كالدو» في الدولة البابلية والتي قام بشنها في العام 878 ق. م. ولا يوجد أثر مؤكد لتعقب الكلدانيين قبل استيطانهم جنوب الدولة البابلية في أوائل القرن التاسع قبل الميلاد, ولا يعرف حتى الأنساب العرقية واللغوية التي ينتمون إليها, ويوجد دليل ضعيف يرجح وجود صلة بينهم وبين العربية وربما كانوا أقرب للآراميين (بوتس 1983). وقد تم ربط الكلدانيين بشرق الجزيرة العربية وذلك من خلال رواية سترابو الذي يذكر فيها استيطان الجرهاء من قبل الكلدانيين الفارين من بابل حوالي العام 694 ق. م. ويعتقد بعض الباحثين أن وجود الكلدان في شرق الجزيرة العربية استمر حتى حقبة ما بعد الميلاد، حيث يذكر دانيال بوتس في بحثه المترجم المعنون «ثاج في ضوء الأبحاث الحديثة» عدداً من الآراء لعدد من الباحثين الذين يربطون الكلدان بشرق الجزيرة العربية. أما البينة التي استدل بها أولئك الباحثون فتختلف من باحث لآخر فمنهم من يربط بين الكلدان والنقوش الحسائية ومنهم من يرى وجود نقوش كتبت باللغة الكلدانية وهي نقوش قريبة الشبه بنقوش اللهجات العربية الشمالية، ويرى آخرون أن العثور على نقوش باللغة الآرامية يدل على وجود الكلدانيين الذين يتحدثون الآرامية, غير أن بوتس لم يرجح أياً من تلك الآراء (بوتس 1983).
وفي ظل غياب دليل واضح لوجود هجرات جديدة لشرق الجزيرة العربية يمكننا أن نرجح أن القبائل التي تحدثت باللهجة الحسائية استمرت بالوجود في شرق الجزيرة العربية وتطورت لهجتها واستخدمت بالإضافة لها اللغة الآرامية واستمرت في ذلك حتى مجيء قبائل عربية جديدة والتي بدأت بقبائل عدنانية وذلك في نهاية القرن الأول الميلادي أو بداية القرن الثاني الميلادي. عقب ذلك وصول قبيلة واحدة قحطانية على الأقل وهي قبيلة الأزد وبعدها استمر وصول قبائل عدنانية جديدة. وتنسب جميع القبائل العدنانية التي سكنت شرق الجزيرة العربية بعد الميلاد لمعد بن عدنان وهي تعرف بالقبائل المعدية. وقد تحدثت هذه القبائل بلغة عربية قريبة جداً للفصحى إلا أنها متأثرة قليلاً بالنبطية وهي لهجة كتبت بحروف نبطية وسنتناول ذلك بالتفصيل في الفصل القادم.
جميع القبائل العدنانية التي عرفت أسماؤها عند الأخباريين ينتهي نسبها إلى معد الذي ينسب لعدنان وقد مر الحديث عن اسم عدنان ومدى غموضه في فصل سابق, ويرجح أن غالبية القبائل العربية هجرت تهامة ولم يبقَ بها إلا القبائل المعدية بالإضافة لقبيلة «عك» والذي يرجح أنه ابن آخر لعدنان (علي 1993, ج1, ص 390). وقد نسب لمعد بن عدنان عدداً من الأولاد، جعلهم بعض الأخباريين أربعة هم: نزار بن معد، وقضاعة بن معد، وقنص بن معد، وإياد بن معد. وجعلهم بعض آخر أكثر من ذلك، إذ أضافوا إلى المذكورين عبيد الرماح ابن معد، وقد دخل أبناؤه في «بني مالك بن كنانة»، والضحّاك بن معد، قالوا: أغار على بني إسرائيل، وقناصة بن معد، وسناماً، وحيدان، وحيدة، حيادة، وجنيداً، وجنادة، والقحم، والعرف، وعوفاً، وشكاً، وأمثال ذلك (علي 1993, ج1, ص 392) والمرجح أن إياد هو ابن نزار وليس ابن معد (علي 1993, ج1, هامش ص 392 وص 395). ونزار هذا هو جد القبائل «النزارية» المنحدرة من نزار بن معد من زوجته «معانة بنت جوشم بن جلهمة» ، أو «معانة بنت جهلة» من جرهم, وهو على زعم الأخباريين والد أربعة أولاد هم: ربيعة ومضر وأنمار وإياد. وهم أجداد قبائل كثيرة في الوقت نفسه (علي 1993, ج1, ص 394).
وقد تناحرت القبائل المعدية فيما بينها فهاجر العديد منها ونزل عدد منها في شرق الجزيرة العربية, وبحسب الأخبار التي تذكر هجرات تلك القبائل يرجح أن أول من سكن شرق الجزيرة العربية منهم هي قضاعة ثم تبعتها إياد ثم تنوخ وهي قبيلة واحدة أو عدة قبائل متحدة, ثم جاءت قبيلة عبدالقيس وبكر بن وائل وتغلب بن وائل وتميم. بالإضافة لهذه القبائل العدنانية هناك قبيلة واحدة قحطانية على الأقل سكنت شرق الجزيرة العربية وهي قبيلة الأزد وقد ويرجح أنها نزلت هناك قبل قبيلة إياد.
وهو قضاعة بن معد بن عدنان, إلا أن بعض أهل الأخبار يضيفها إلى القحطانين، على حين نرى فريقاً آخر من النسابين ومن ورائهم القضاعيون يعدّون أنفسهم من أقدم أبناء معد، فيقولون: قضاعة بن معد، وبه كان يكنى معد، أي أنهم أقدم أبناء معد. ويروون في ذلك شعراً من أشعار قضاعة في الجاهلية وبعد الجاهلية. وفي كل ذلك أثر التعصب القبلي الذي كان يتحكم في النفوس، ويظهر في النسب. ويذكر النسابون الذين يرجعون نسب قضاعة إلى حمير إنها من نسل قضاعة بن مالك بن حمير بن سبأ (علي 1993, ج 1, ص 392). ونلخص هنا قصة هجرة قضاعة عن البكري في كتابه «معجم ما استعجم»: «فاجتمعت نزار بن معد على قضاعة، وأعانتهم كندة، واجتمعت قضاعة وأعانتهم عك والأشعريون، فاقتتل الفريقان، فقهرت قضاعة وأجلوا عن منازلهم... فسارت تيم اللات بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وفرقة من بني رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة، وفرقة من الأشعريين نحو البحرين، حتى وردوا هجر، وبها يومئذ قوم من النبط، فأجلوهم (البكري, عالم الكتب ط3, 1983: ج1, ص 20 - 21).
وهي من القبائل القحطانية أما قصة هجرتها للبحرين فنلخصها عن دراسة حسين نصار عن قبيلة الأزد:
«وكان الموطن الأصلي لبني الأزد مَأرِب... وتمر أعوام، فتضيق منطقة مأرب ببني الأزد، بعد أن كثروا، وساءت أحوال اليمن الاقتصادية لإهمال الزراعة ومشروعات الريّ، فيضطر أكثرهم إلى النزوح عن موطنه والتشرد في الأنحاء المختلفة من شبه الجزيرة العربية... ويبدو أنهم اقتنعوا أنهم لن يستطيعوا أن ينزلوا مجتمعين في مكان ما. فانقسموا إلى مجموعتين، سلكت كل منهما طريقاً مستقلاً في هجرتها... وكان احد الطريقين غربياً، انتهى بالمهاجرين إلى الشام، والآخر شرقياً انتهى إلى الحيرة والأنبار... وهكذا نجد في الطريق الغربي بني الحارث بن كعب ينزلون نجران. وبني غامد وبارق ودوس وغيرهم من بني نصر بن الأزد يتخلفون في السراة وخزاعة في بطن مَرّ على مقربة من مكة، والأوس والخزرج في يثرب (المدينة المنورة). وينتهي الطريق بغسان في الشام. ونجد في الطريق الشرقي بني جُديد يتخلفون في رَيسوت على ساحل الشحر بين عمان وعدن، ويحمد وحدان ومالك والحارث وعتيك ورئام في عمان، وجماعة في هجر في البحرين وينتهي الطريق بدوس في الحيرة والأنبار (نصار 1971).
المرجح أنها تنسب لإياد بن نزار بن معد إلا أن الأمر قد اختلط على بعض أهل النسب في قضية «إياد»، فجعلوا إياداً ابناً من أبناء معد. وقد ذكر المسعودي أن إياداً ينسبون إلى القبيل الأكبر، وليست لهم قبائل مشهورة. ويذكر قوم أن ثقيفاً من إياد، ويرى فريق أنهم من قيس عيلان (علي 1993, ج1 ص 397).
وقد كانت مواطنها تهامة إلى حدود نجران، ثم انتشرت بسبب حروب وقعت بينها وبين ربيعة ومضر، فارتحل قسم منها إلى العراق، وانضم قسم آخر إلى قضاعة وأقام بالبحرين، وسكن قسم منها في «وادي بيشة»، وهاجر آخرون إلى بلاد الشام (علي 1993, ج1 ص 396) وقيل إنها سكنت البحرين وذلك أثناء تواجد قضاعة والأزد فيها، فحلت إلى جوارهم، وقيل إنها اختارت جزيرة أوال للإقامة بها (أبو المكارم 1996). وقد دانت قبيلة إياد لغسان، وتنصروا، ولحق أكثرهم بلاد الروم، فيمن دخلها مع جبلة بن الأيهم، من غسان وقضاعة وغيرهم، وبقايا من بقاياهم متفرقون في أجناد الشام ومدائنها، وكان من دخل مع جبلة بن الأيهم من إياد وقضاعة وغسان ولخم وجذام نحو أربعين الفا، وهم معهم إلى اليوم، (البكري, عالم الكتب ط3, 1983: ج1, ص 75).
العدد 2960 - الأربعاء 13 أكتوبر 2010م الموافق 05 ذي القعدة 1431هـ