مددت يدي نحوه مصافحاً فأعرض ثم تولى. رفض أن يمد يده لي. ابتسمت في وجهه فلم أرَ على وجهه سوى تكشيرة حادة وملامح كره دفين وغضب عميق لم أفهمه.
تساءلت إن كان جدي قد قتل جده أو أن أبي قد حارب أباه أو كنت قد آذيته أو أياً من أبناء عمومته فتذكرت أن جدي عاش مسالماً ومات مسالماً ومشى أبي على خطى جدي ومشيت. هرب عني وجلس في مكان آخر فلم أرً سوى ظهره. لحقت به وسألته إن كان بإمكاني أن أحاوره أو أحدثه قليلاً قبل أن نشرع في دخول الطائرة فأطلق تنهيدة ثم قال: «أرفض أن أحاور العلمانيين»... ثم أدار لي ظهره وتركني لحيرتي. نظرت حولي، يميناً... شمالا... فوق... تحت... وكنت أبحث عن أي من «العلمانيين» الذين ذكر فما رأيت حولي سوى مسافرين مسنين مشغولين في أحوالهم يتبادلون الأحاديث عن تجاربهم المريرة في مستشفيات الرياض أو في وزارات العدل والبلديات والمواصلات ومجلس القضاء الأعلى. لكنها لم تمضِ دقائق قليلة حتى عاد إليّ ومد يده نحوي ينوي المصافحة فترددت أن أمد له يدي. راودني شيطاني أن أعامله بمثل ما عاملني فلا أمد له يدي وكان عذري جاهزاً: «أنا لا أصافح متطرفاً أحمقاً غبياً لا يملك غير أن يكفر الناس أجمعين». أحمد الله أن نصرني على شيطاني فمددت يدي نحوه وتصافحنا.
شعرت بصدق عميق في مصافحته وشهامة أصيلة في اعتذاره. لكنه -على الفور- قال: «إنكم الخطر الكبير على وجودنا؟» تساءلت: نحن؟ من تقصد؟ أجاب وقد أصر على اتهامه: «الليبراليون من أمثالك الذين يريدون أن يقودوا مجتمعنا إلى داهية». فرحت أنه أبعدني من صفوف «العلمانيين» غير أني أدركت فيما بعد أن تصنيف «علماني» و«ليبرالي» يعنيان عنده نفس المعنى. وشرعت أتساءل مع نفسي: «متى أصبحت ليبرالياً؟» و»كيف تصبح ليبرالياً؟ وماذا يعني أن تكون ليبرالياً؟».
ربما -حدثتني نفسي- أن شروط الانضمام إلى نادي «العلماني» أو «الليبرالي» عندنا لا تتطلب سوى حلق الشنب أو الدراسة في أميركا. قال: «من وكلكم على شئون المجتمع وليس لديكم أي مقدرة شرعية؟».
سألته أولاً إن كان قد ظن أنني أحد وزراء الدولة النافذين أو أنه قد قرأ وكالة شرعية تفوضني بشئون الأمة وأنا آخر من يعلم فأصر أنه يحدثني كـ «كاتب ليبرالي» وكأن «الكتابة» في زماننا البائس يمكن أن تغير الأحوال أو تصلح شيئاً مما أفسده طول الانتظار. سألته إن كان لابد من دراسة الشريعة أو أصول الفقه حتى يكون لي الحق أن أكتب أو أناقش قضايا تمس وطني ومستقبلي ومستقبل أبناء وطني فأكد: «إنكم تجيدون اللف والدوران».
ركبنا الطائرة وأصر أن يجلس إلى جواري كي نواصل هجومنا واتهاماتنا وصراخنا. حدثني عن الجهاد في أفغانستان والشيشان وكشمير، فحدثته عن حوادث المرور على طرق الموت عندنا، في الجنوب والشمال، ومشكلات البطالة وقضايا الاقتصاد وسوء الخدمات. ذكرني بأحوال المسلمين الفقراء في الهند وبنغلاديش والفلبين فذكرته بأحوال بعض المسلمين الفقراء في تهامة وجدة وبعض أحياء الرياض. حدثني عن كذب الإعلام الأميركي فأوصيته أن يتنازل عن عنجهيته قليلاً ويشاهد محطات الصراخ العربي وما تعج به من كذب ونفاق وقلة حياء. قال إن المجتمع الأميركي مجتمع فاسد على الإطلاق فرجوته ألا يدفن رأسه في التراب وينظر حوله أو يقرأ عن الجرائم الأخلاقية التي يطفح بها العالم الإسلامي من قتل الأبوين ودفن الأبناء أحياء وانتشار السرقات والمخدرات والفساد الإداري والرشا وزنى المحارم. قال إن الأميركان يهينون العرب في المطارات الأميركية. قلت إن العرب يهينون العرب في المطارات العربية. قال إن أميركا تريد أن تهين إخواننا في العراق. قلت إن صدام حسين يدوس على رقاب العراقيين منذ ثلاثين سنة. قال لا خير في أمة لا تهرع لنجدة إخوانها عند المحن. قلت لا خير في رجل تشب النار في منزله فيغض الطرف ويركض نحو بيوت الجيران في حارات متباعدة يطفئ حريقاً ويشعل آخر.
سألني: كنت هادئاً لطيفاً.. ماذا غيرك؟ سألته: «كنت عاقلاً أنيقاً مبتسماً... من قلب رأسك؟» قال إن فكرك دخيل على مجتمعنا. قلت إن جهلك مرض انتشر في مجتمعنا. قال لا كلام بيننا. قلت: «مدت ولا ردت». ومرت دقائق حتى سألني عن الأهل والإخوان والأقارب. أجبته ثم سألته عن أهله وإخوانه وأقاربه. مدح أسرتي وأخوالي وأبناء العمومة. زدت المد مدين وأثنيت على أسرته وأخواله وأعمامه ومن أعرف ومن لا أعرف من أقاربه ومعارفه. دعا لي بالهداية والتوبة فدعوت له بالصلاح والمعرفة. عاتبني: «أردت لك الجنة فأردت لي النار». أجبته: «تمنيت لك الخير فتمنيت لي الشر».
وصلنا إلى أبها وذهبت أبحث عن حقيبتي في صالة الوصول. لم أودعه ولم يقل لي مع السلامة. خرجت من بوابة المطار وإذا به - مثل جبل - واقف يبتسم أمامي وقال: «لك واجب عندنا... عطني موعد». شكرته واعتذرت. ألح أن أزوره فوعدته أن أحاول. قال إننا أبناء عمومة ويكفي أننا من القبيلة نفسها!.
أصر أن يسلم على رأسي فرفضت ومن شدة المحاولة كاد عقالي أن يسقط أرضاً وضاع ميزان شماغه. ودعني على أمل اللقاء القريب وراح. قبل ساعة ونصف: فرقتنا الأيديولوجيا ولم تنقذنا القبيلة.
بعد ساعة ونصف: نسينا الأيديولوجيا وانتصرت القبيلة.
@ ملاحظة للقارئ: المقال كُتب قبل عشر سنوات... و مازالت «الحالة» ذاتها تتكرر كثيراً!
إقرأ أيضا لـ "سليمان الهتلان"العدد 2959 - الثلثاء 12 أكتوبر 2010م الموافق 04 ذي القعدة 1431هـ
جميل
جميل موضوعك وافكاره تؤكد الدلالات والحكم
اعجبتني وارحتني نفسيا بعد تعبا كنت فيه
ادعوك ان تنجز رواية او قصة قصيرة حول مثل هذه الوقائع اكيد بتكون جميله
وفققك الله
بحريني معجب
اسلوبك رائع
سليمان الهتلان...اسلوبك رائع في الكتابه ويشد القارىء
احمد البر
اسلوب راقي في الكتابة
انتم تعملون بالتقية
هذه المقالة تذكرني ايام العمل بأحد الزملاء والذي مرشح نفسه نائبا ، في مرة كنا نتنقش كزملاء عمل في بعض القضايا وشئون الوطن فقال لي : لااضدق كلامك لانك تعمل بالتقية وكلامك الظاهر غير حقيقة باطنك ،فقلت له: انا زميل معك اربع سنوات وليس يوم او اسبوع هل رأيت مني شيئا يخالف الاخلاق والانسانية ،فقال لا . اذا كيف تكم علي بهذه الطريقة .فعاد لانكم تعملون بالتقية . فقلت اربع سنوات كافية ان يظهر اي تصرف على فلتات يدي ولساني ولم يحري جوابا ، نرجوا له التوفيق في الانتخابات الحالية وشكرا لك يا اخي سليمان .
أنا بصراحة معجبة بمقالاتك
أسلوب عجيب وراقي ويضع اليد على الجرح ويناقش قضايا حساسةتناسب ذوي العقول المنفتحة وليس الحمقى الذين لااعتبار لهم ويعجز البيان بصراحة عن وصف فكرك الذي تظهره في مقالاتك.
فللك كل التحية والتقدير