استنتج لارس جونونج وإيوين دريا (2010) في دراستهما أن الموقف المتشائم الذي اتخذه معظم الاقتصاديين الأميركيين من اليورو خلال الفترة 1989 - 2002 «كان قد نشأ على الأرجح نتيجة ميل الاقتصاديين الأميركيين إلى اعتبار اليورو مشروعاً سياسياً دوافعه غامضة يقوم على قاعدة مؤسسية منقوصة». لو كان معظم الاقتصاديين الأميركيين يعتقدون أن اليورو هو مشروع سياسي، إلى حد كبير، فقد كانوا على صواب في اعتقادهم هذا. حين نقرأ قصص ظهور اليورو، فإن من الواضح أن السياسة، وليس الاقتصاد، هي سيدة الموقف (براون 2004؛، مارش 2009).
لكن هذه النظرة الواقعية (التي تقول بهيمنة «السياسة») لا تشجع الفرد على اتخاذ موقف متشائم ولا متفائل من اليورو. انطلاقاً من خبرتي كمستشار في إصلاحات العملة في أوروبا في تسعينيات القرن العشرين، لاحظت بصورة مباشرة أن العامل المهيمن هو السياسة أي أنها هي المحدد الرئيس، وأحيانا بعض الاعتبارات الشخصية، وليس اقتصاد مناطق العملة المثلى. كما لاحظت أن الأمر يمكن أن يؤدي إلى إصلاحات جيدة رغم ذلك.
في إستونيا، التي أنشأت عملة مستقلة في العام 1992، كان الهدف القومي المهيمن هو الخروج من منطقة الروبل، وبصورة أشمل، الخروج من دائرة نفوذ موسكو. كانت أكثر الطرق ملائمة لإنجاز هذا الهدف وبشكل سريع هي إنشاء مجلس للعملة. وكان المحرك الرئيس لقيام ليثوانيا بإصلاحات مماثلة لعملتها العام 1994 هو دور رئيس الوزراء أدولفاس سليزيفيكيوس. حيث كان منجذباً لفكرة مجلس العملة، لأنها كانت سبيلاً لتهميش محافظ البنك المركزي، وفرض الانضباط في المالية العامة على الحزب الذي ينتمي إليه (وهو حزب العمل الديمقراطي)، الذي كان يسيطر على البرلمان. وفي بلغاريا، أدى تضخم مفرط العام 1997 إلى هياج شعبي عنيف يطالب بأموال سليمة ومجلس للعملة، وهي فكرة ترددت في الأوساط المهنية منذ العام 1991. والواقع أن ترجمة هزيلة (باللغة البلغارية) لبحث قديم كنت قد كتبته العام 1991 (هانكي وشولر 1991)، قد احتلت قائمة الكتب الأكثر رواجاً في صوفيا أثناء فترة التضخم المفرط. كذلك أنشأت البوسنة والهرسك مجلساً للعملة في العام 1997. وقد كان هذا البند مفروضاً بحكم اتفاقية ديتون - باريس للسلام، وهي معاهدة دولية وقعت في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 1995. أما جمهورية الجبل الأسود، فرغم انتمائها آنذاك لاتحاد الجمهوريات اليوغوسلافية إلى جانب الصرب، إلا أنها تخلت عن الدينار اليوغوسلافي واستعاضت عنه بالمارك الألماني في نوفمبر 1999. هذا القرار الجريء من ميلو ديوكانوفيتش (الذي كان رئيساً للجمهورية في ذلك الحين) كان جزءاً من استراتيجية سياسية لتثبيت استقلال الجبل الأسود. كانت السياسة، وليس الاقتصاد، العامل الرئيس وراء قرار الجبل الأسود بتبني المارك الألماني، شأنه في ذلك شأن إنشاء اليورو.
لقد شعرت بسعادة كبيرة لوجود منطق سياسي وتأييد شعبي لإصلاحات العملة التي كنت أنادي بها. لكن تهميش النقاط الاقتصادية الدقيقة لم تؤثر عليّ. جميع البلدان المذكورة آنفاً مستمرة حتى اليوم في السياسات النقدية التي وضعتها في تسعينيات القرن الماضي. (تحولت جمهورية الجبل الأسود إلى اليورو حين حل اليورو محل المارك الألماني.) وتم اتباع هذه السياسات إلى حد كبير لأسباب سياسية، لكنها استمرت لأنها حققت النتائج الاقتصادية القوية التي كانت مرجوة منها.
تستند آرائي حول أسعار صرف العملات إلى التمييز بين (ثلاثة أنظمة)، وهي نظام الأسعار المثبتة تثبيتاً تاماً، ونظام السعر المعوم تعويماً تاماً، ونظام ارتباط العملة. نظام أسعار الصرف الثابتة ونظام أسعار الصرف المعومة هما نظامان تهدف السلطة النقدية من خلالهما تحقيق هدف واحد فقط في كل مرة. رغم أن نظامي سعر الصرف الثابت والمعوم يبدو عليهما الاختلاف، إلا أنهما عضوان في عائلة السوق الحرة نفسها. يعمل النظامان دون ضوابط على تبادل العملات، وهما من آليات السوق الحرة اللازمة في تعديلات ميزان المدفوعات. في نظام الأسعار المعوّمة، يضع البنك المركزي سياسة نقدية، لكن سعر الصرف يعمل من تلقاء نفسه. معنى ذلك أن القاعدة النقدية يتم تقريرها محلياً من قبل البنك المركزي. وحين يكون سعر الصرف ثابتاً، هناك احتمالان: إما أن يحدد مجلسُ العملة سعرَ الصرف، ويعمل عرض العملة من تلقاء نفسه، أو «يتدلور» البلد ويستخدم الدولار الأميركي أو عملة أجنبية أخرى لتكون بمثابة عملته المحلية، ويعمل عرض العملة كذلك من تلقاء نفسه. من منظور أي بلد معين، يعتبر الاتحاد النقدي من قبيل منطقة اليورو شبيهاً بالدلورة (أي التحول لاستخدام الدولار). نتيجة لذلك فإن القاعدة النقدية للبلد (في ظل نظام سعر الصرف الثابت) يتم تحديدها من قبل ميزان المدفوعات، وتتحرك على أساس تناظر «واحد لواحد» مع التغيرات في احتياطياتها الأجنبية (بمعنى أن التغير في أي عنصر في المجموعة الأولى يكون مناظراً لعنصر واحد في المجموعة الثانية). حين يكون سعر الصرف ثابتاً أو معوماً فإن من غير الممكن وجود حالات من التضارب بين السياسة النقدية وسياسة أسعار الصرف، ولا يكون هناك مجال لأن تُطِل الأزمات في ميزان المدفوعات برأسها القبيح. الواقع أن نظام سعر الصرف الثابت ونظام سعر الصرف المعوم هما نظامان يتمتعان باستقرار كامن، على نحو تتصرف فيه قوى السوق بصورة آلية لإعادة التوازن إلى الحركات المالية وتجنب الأزمات في ميزان المدفوعات.
* أستاذ علم الاقتصاد التطبيقي في جامعة جونز هوبكنز في بالتيمور. وزميل أول في معهد كيتو بواشنطن العاصمة، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2955 - الجمعة 08 أكتوبر 2010م الموافق 29 شوال 1431هـ