خلال العدوان على لبنان في صيف 2006 ردت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس على سؤال يستوضح أسباب إعطاء إدارة جورج بوش الابن الضوء الأخضر لحكومة «إسرائيل» تدمر بموجبه الدولة بذريعة ملاحقة خلايا حزب الله. وجاء الجواب «أنه مخاض ولادة الشرق الأوسط الجديد». فالولادة برأي وزيرة الولايات المتحدة آنذاك يتطلب الألم حتى يخرج الوليد من الرحم.
على قاعدة هذا المنطق التقويضي تأسست استراتيجية تيار «المحافظين الجدد» الذي اتخذ من هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 غطاءً لاحتلال أفغانستان والعراق وتدمير دولة لبنان وصولاً إلى العدوان على غزة في نهاية 2008 ومطلع 2009. فالاستراتيجية التقويضية لم تتوقف حتى الأسبوع الأخير من موعد تسلم وتسليم مقاليد السلطة للرئيس المنتخب باراك أوباما.
حتى اللحظات الأخيرة من عهده استمر تيار «المحافظين الجدد» يعمل على توسيع دائرة التحطيم بغرض إعادة تشكيل هوية «الشرق الأوسط الجديد» وفق معادلة تفرضها ميدانياً خريطة التوزع السكاني الممتدة على شريط قوس الأزمات من أفغانستان إلى لبنان. فهذه المنطقة الجغرافية مشهورة بالاضطرابات لأنها من جهة تقع أو تلامس «طريق الحرير» الذي توقفت شرايين التجارة الدولية عليه منذ نهاية القرن الخامس عشر بعد أن فقد وظيفته التاريخية إثر اكتشاف أميركا وخطوط الأطلسي، ولأنها من جهة أخرى تحتضن أقليات وعصبيات تعطل إمكانات نمو دول قوية وقادرة على ضبط وحدتها السياسية في إطار عادل ومتوازن.
تقويض هياكل الشرق الأوسط القديم وتأسيس الجديد على أنقاضها شكلت فلسفة التغيير في استراتيجية إدارة بوش في عهد «المحافظين الجدد». شكلت هذه الفلسفة التقويضية قاعدة الاستراتيجية الأميركية التي امتدت أكثر من 8 سنوات إلى أن جاء أوباما وحاول تجميدها فنجح في السنة الأولى ولكنه أخذ يفقد القدرة على السيطرة في السنة الثانية حين اصطدم بشبكة من المؤسسات تمنع أو تعطل التعديل باتجاه تصالحي.
الخطاب الذي ألقاه أوباما في العام 2009 في جامعة القاهرة حمل في طياته وعوداً بوقف الحرب على الإسلام والمسلمين ومنع امتداد أو تفجر الحروب الأهلية - المذهبية التي كان يراهن عليها تيار «المحافظين الجدد» لكونها تفتح قنوات يمكن التأسيس على مجموعاتها هياكل «الشرق الأوسط الجديد».
الآن تبدو الأمور سائرة بالاتجاه الذي وضعه بوش الابن وأنفق عليه مئات مليارات الدولارات، بينما أوباما يظهر على الشاشة في صورة الرئيس العاجز عن كبح حروب مؤسسات التصنيع الحربي وشركات الطاقة وأسواق المال. فالاستراتيجية التقويضية أقوى منه وهي نجحت في توريطه في حرب أفغانستان وتوسيع حدودها إلى الداخل الباكستاني. ومن ينظر الآن إلى المشهد المتداعي من إسلام آباد إلى بيروت يرى أن خريطة الشرق الأوسط الجديد قد بدأت بالتحقق الميداني وهي تتطلب «مخاضات» حتى يعاد إنتاج هياكلها السياسية بناءً على مواصفات أهلية أخذت تتشرذم على مدى قوس الأزمات.
السؤال: هل نجحت الاستراتيجية الأميركية وبات تاريخ المنطقة يسير باتجاه خريطة جديدة للشرق الأوسط تقوم على معادلة تفكيك التفكيك وإعادة توزيع مراكز أنشطة الدول على قاعدة أهلية مذهبية تتوافق مع الهيئة العامة للعصبيات الضيقة والهويات الصغيرة؟
المسألة تبدو صعبة ولكنها ليست مستحيلة إذا استمرت التجاذبات والاستقطابات والاحتقانات تتوالد وتتفجر وتنتقل آلياً من مكان جغرافي إلى آخر. فالمشرق العربي الذي تتكثف في تضاعيفه عشرات الأقليات المسورة بالأحزاب والزعامات ومراكز القوى والمراجع التقليدية تبدو جاهزة للتكيف مع دويلات الشرق الأوسط الجديد. كذلك تبدو الأمور في أفغانستان متجهة نحو المزيد من التفجر الأهلي الذي يمكن أن يعطي ذريعة للولايات المتحدة باللجوء إلى لعبة التقسيم بين شرق وجنوب لحركة طالبان (البشتون والبلوش) وشمال وغرب للقوى الأقوامية الأخرى (الطاجيك والأوزبك والهزارة). وفي حال انشطرت أفغانستان إلى دويلات فإن حرارة الانقسام لا يمكن وقف تداعياتها في باكستان. القانون نفسه يمكن سحبه على ساحة بلاد الرافدين بعد أن نجحت استراتيجية التقويض (اللبننة) في تفكيك المجموعات الأهلية إلى هيئات سياسية تحتضن كل شروط ومواصفات التحول إلى دويلات (فدراليات) مناطقية. وحال «العرقنة» الذي تأسست معطياته الميدانية في بلاد الرافدين ليس بعيداً عن التصدير إلى بلاد الأرز إذا استمر الفضاء اللبناني يتفجر في ضوء قرارات يمكن أن تصدر عن قضاء المحكمة الدولية وما سيعقبها من تهديدات سياسية وتداعيات أهلية.
مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي وعد بوش المنطقة به في نهاية العام 2001 باتت صورته الميدانية مرسومة على الأرض وتحتاج إلى إعلان رسمي يؤكد نجاحها في دفع المجموعات الأهلية نحو التأقلم مع خريطتها السياسية. فالمشروع كما اتضح بعد كل تلك المخاضات لم يفشل كما قال وأكد مراراً بوش في تصريحاته وأعماله وتصرفاته حتى الأسبوع الأخير من عهده.
خريطة الشرق الأوسط الجديد ليست سياسية وإنما أهلية. والخريطة لا تتطلب إعادة ترسيم الحدود وإنما المحافظة عليها من دون تغيير. التعديل المراد هو في داخل هياكل الدولة الأهلية لا خارجها الأمر الذي يقضي التدخل أحياناً لتسهيل المخاض وتسريع الولادة.
الكلام عن أن مشروع الشرق الأوسط الجديد فشل أو أحبط أو هزم يحتاج إلى مراجعة، لأن الوقائع في باكستان وأفغانستان والعراق ولبنان وفلسطين تؤشر إلى انقسامات في البناء السياسي لهياكل الجماعات الأهلية وانشطارها إلى هيئات تتناسب مع النسق المرسوم ميدانياً على الأرض. وبهذا المعنى القريب تبدو فلسطين ليست بعيدة عن خط الانشطار الزلزالي في حال تمت استعادة كلام بوش حين زار «إسرائيل» في العام 2008 بمناسبة مرور 60 عاماً على تأسيس الكيان مؤيداً للمرة الأولى فكرة «الدولة اليهودية». فالكلام البوشي عن يهودية الدولة ليس بعيداً عن فضاءات قوس الأزمات من باكستان إلى فلسطين، لأن منطقه يتناسب مع طبيعة تكوين «الدويلات» الأهلية المراد إخراجها إلى ساحة «الشرق الأوسط الجديد». فالساحة إذاً احتضنت خريطة دويلات باشتونية وبلوشية وطاجيقية وأوزبكية وكردية وسنية وشيعية ومارونية وتركمانية وغيرها من تنويعات أهلية تصبح فكرة تأسيس دولة يهودية صافية في فلسطين (أراضي 1948) ليست بعيدة أو مستغربة وسط عقد من الدويلات الصافية.
المخاض لولادة الشرق الأوسط الجديد الذي تحدثت عنه رايس لتبرير تدمير البنية التحتية للدولة اللبنانية في العام 2006 يوضح الكثير من الأمور التي جرت في أنهار الدم التي انفجرت في قوس الأزمات خلال عهد تيار «المحافظين الجدد». فالحروب مرسومة وليست عبثية وهي كانت تحتاج إلى ذريعة للبدء في تنفيذها... وربما هي الآن تحتاج إلى ذريعة أخرى للإعلان رسمياً عن نجاحها.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2953 - الأربعاء 06 أكتوبر 2010م الموافق 27 شوال 1431هـ
العدل
وهل العرب واعين الى هدا المخطط والدى كشف فى حرب لبنان بين حزب اللة والصهاينة وما كان سيترتب علية من مصايب واضرار وشل وانهاء اى مقاومة تقف بوجه امريكا وكلة لعيون الصهاينة . الشرق الاوسط الجديد هو قتل المقاومة وسلام بين العرب والصهاينة؟؟