أجمل ما في الكتابة التاريخية والتراثية أنك كلما بحثت وكتبت وحاولت الوصل إلى العديد من الحقائق حتى لأدنى معلومة عنها، تكتشف مجاهل أخرى أعمق وتدخل فضاءات أرحب بل ومشوقة أكثر لمواصلة البحث والتدوين والتحليل. وهذا فعلاً ما حدث مع قصة الحاج عبدالمحسن آل شهاب حين بدأت بحلقتها الأولى قبل حوالي شهر ونصف. فقد فتحت الدراسة في هذا الملحق باب مشاركة عائلة آل شهاب في دعم البحث عن جدهم تاجر اللؤلؤ المشهور ذاك الزمان والذي خلق امبراطوريته الصغيرة من الصفر. بدأ أكثر من فرع في العائلة الكريمة يساهم بما لديه من إرث ثقافي وثائقي مهم عن الجد في بيان جوانب عديدة كانت خافية على الباحث لعدم الكشف عنها وعن مساراتها وأماكن تواجد تلك الوثائق بمعلوماتها، مما يلقي أضواء كاشفة على مجمل أوضاع تجار اللؤلؤ البحرينيين في تلك الفترة المبكرة من القرن العشرين والتي كانت تعتبر حاسمة ومفصلية في الانتقال بين عالمين من عوالم الإنتاج وهما عالم تجارة اللؤلؤ وما صاحبه من مزاحمة اللؤلؤ الصناعي وبدء اكتشاف النفط وتغير نمط الإنتاج من الاعتماد على خيرات قاع البحر إلى الاعتماد على خيرات قاع الأرض. ولسوف نحاول في الحلقات الآنية والتالية الكشف عن بعض تلك الوثائق في حياة أسرة آل شهاب.
أول تلك الحقائق التي بدأت تتكشف تدريجياً بعد بحث عنها طوال الفترة المنصرمة ما أحاط من غموض بأواخر فترة الحاج عبدالمحسن آل شهاب وكيف فقد ثروته من اللؤلؤ الذي نعرض لجزء منه - كما في الصور المصاحبة - وقد تم العثور على بعض أنواع اللؤلؤ من (حصباة وسحتيت) وبعض المجوهرات وقطع الذهب في صندوق الحفظ (التجوري) الخاص بأحمد بن عبدالمحسن، هذا الصندوق الذي أوصى بصنعه الابن أحمد في الهند وهو من ماركة (كليداس). وسنحاول معرفة سبب انتقال عبدالمحسن من العلاج في مستشفى الإرسالية الأميركية بالبحرين إلى العلاج بمستشفى الإرسالية الأميركية بالهند (مرج)، وهل كان ذلك بتوصية من مستشفى الإرسالية في البحرين أم باقتراح من العائلة والأصدقاء؟ بالإضافة لتصحيح سنة وفاة هذا التاجر.
بداية لم تسعفنا الوثائق ولا الروايات الشفاهية في أسباب إصابة عبدالمحسن بالمرض الخبيث كما أسلفنا، ولكن ما توصلنا إليه بعد مقارنة الوثائق والحكايات الشفاهية بعضها بعض حول نهاية ملك اللؤلؤ الدرازي بن شهاب يثبت الحقائق التالية:
- بدأت بوادر المرض تظهر على عبدالمحسن قبل كتابة وصيته العام 1918م ولذا أسرع بكتابتها خوفاً من معاجلة الموت له وقد أكد فيها أنه كان بكامل صحته ووعيه عندما كتبها.
- بدأت فترات علاجه داخل البحرين بداية في مطلع العشرينيات من القرن الماضي، ولعدم توافر مستشفى حكومي آنذاك وبما أنه تاجر مقتدر جداً ومن أعيان البلاد؛ فقد أُدخل مستشفى الإرسالية الأميركية في البحرين العام 1923 كما تؤكد وثيقة هي عبارة عن رسالة من المدعو عبدالكريم بن الحاج عبدالحسين آل رحمة مرسلة من كربلاء العراق في 23/ 3/ 1924، كتبت على هامش رسالة أخرى هي في الأساس مرسلة من قبل عيسي بن سيدجواد إلى الأخوين الحاج عبدالمحسن والحاج إبراهيم يسأل فيها عن صحة عبدالمحسن تحديداً. يقول عبدالكريم في الرسالة المشتركة: «أهدي سلامي وتحياتي الكثيرة للأخ الحاج عبدالمحسن واني لم أزل أتفحص عن أحوالكم وسلامتكم في كل وارد وقد بلغني جنابكم حتى الآن في المستشفى الأميركي. في الحقيقة لو تتوجهون العراق لإتمام المباشرة كثيراً أحسن لأن العمدة الخاصية في تغيير الهواء وحكماء (أطباء) موجودين في بغداد حاذقين واقلها يقتضي تستقيموا في العراق ثلاثة أربعة أشهر وأنتم أعرف بتكليفكم ولكن الصحة على الإنسان عزيزة بل اعز الأشياء على الإنسان. هذا ما لزم مع إبلاغ السلام للإخوان والأخ احمد ومن يعز عليكم».
- ويبدو أن حالة عبدالمحسن لم تتحسن فتم السفر به إلى الهند بمعية ولده أحمد وابن عمه إبراهيم بن حجي محمد آل شهاب وهو جد عبدالواحد منصور، وهو الذي لازمه طوال فترة تواجده في مستشفى الإرسالية الأميركية بمنطقة (مرج) ذات الطبيعة الخلابة والهواء العليل، بتقاسم المناوبة بينه وبين الابن احمد الذي كان ينتقل بين مرج ومومباي خلال فترة تواجد والده للعلاج في الهند لتصريف أمور والده التجارية بين اللؤلؤ والسلع الكمالية كما توضح جملة المكاتبات التي عثر عليها مؤخراً وقد جرت بين احمد ووالده وإبراهيم.
- توضح أرصدة المستشفى المالية الخاصة بعلاج عبدالمحسن والرسائل المتبادلة بينه وبين ولده احمد في مومباي بخط إبراهيم وتوقيع الأب، أنه أدخل المستشفى المذكور في شهر أكتوبر/ تشرين الثاني 1924 وبقي هناك حتى شهر فبراير/ شباط من العام 1925 وكان يقوم على علاجه طبيب اسمه (هريس) ويساعده آخر يدعى (ويل). وقد أجريت له بعض العمليات من جراء ما يعانيه من مرض لم يتبين في أي جزء من جسمه. ولكن بعد فترة بسيطة من النقاهة تدهورت حالته الصحية من جديد وأدخل المستشفى مرة أخرى وبقي حتى شهر أبريل/ نيسان 1925 حيث صُرفت له وصفة طبية من أدوية وحقن في 21/ 4/ 1925 .
- تعرف عبدالمحسن طوال فترة علاجه في الهند على عدة عائلات بحرينية مقيمة هناك أو كانت تتوافد على الهند للتجارة، وبعضها كان مهنته شراء اللؤلؤ من تجار البحرين وبيعه على تجار الهند أو الدلالة في تلك التجارة، ومن هؤلاء من ذكرهم عبدالمحسن في رسائله لابنه احمد وخصهم بالسلام: يوسف بن علي الصايغ، وبيت آل فضل، واحمد بن منصور، خلف بن طاهر، منصور الجشي، مهدي بن سيف، وغيرهم.
- بعد عودته إلى البحرين لم يطل العمر بالحاج عبدالمحسن أكثر من أشهر معدودة حيث تدل رسائل التعزية والمواساة بفقده المرسلة من كبار التجار والأصدقاء داخل وخارج البحرين لابنه احمد أن عبدالمحسن توفي في الفترة ما بين أكتوبر ونوفمبر من العام 1925، والدليل الذي يؤكد ذلك رسالة التعزية المرسلة بتاريخ 21 جمادى الأول من العام 1344 هـ وهي توافق تاريخ 7/ 12/ 1925، وأخرى بتاريخ 24 جمادى الأولى1344 أيضاً.
- للأسف لا يعرف اليوم موقع قبر المرحوم تاجر اللؤلؤ المعروف عبدالمحسن آل شهاب.
* حكايات شهابية:
• البقرة الحلوب والجيران:
يذكر الحاج حميد هذه الحكاية عن جده الحاج عبدالمحسن: «كان جدي الحاج عبدالمحسن له عادة طيبة مع احد الجيران في قبول دعوة الإفطار لديهم مرة في الأسبوع في كل شهر رمضان. وذات يوم حضر هؤلاء الجيران لجدتي أم أحمد وطلبوا منها باسم زوجها بوأحمد أن تعطيهم البقرة الحلوب التي في (زريبة البيت). فقالت: أبو أحمد يريد البقرة، إن شاء الله والغنيمة... كما تأمرون. واخذوا البقرة وكان هؤلاء (حمّارة) يشتغلون برعي وبيع الحمير، فباعوا البقرة في سوق الخميس بالبلاد القديم آنذاك.
وعندما عاد جدنا إلى البيت ظهراً اكتشف أن البقرة ليست في حظيرة المنزل الخلفية فاستغرب وسأل زوجته أم أحمد عن السبب. فقالت له: هل نسيت أنك أرسلت جيراننا ليأخذوا البقرة من الزريبة باسمك فأعطيتهم إياها. فكتم غضبه ووافقها على ما قالته. ولكن جدي فطن لما حدث فأخذ بيد أبي وذهبا إلى سوق الخميس ووجدوها فعلاً مازالت هناك ولكنها بيعت لمشتري حيوانات في السوق ولحسن حظ جدي أنه لم يبعها بعد لمشترٍ آخر، مما دفع جدي لشراء البقرة مع أنها مُلكه ورجع بها إلى المنزل. لم يعاتب الجيران ولا وجه لهم اللوم أو أحرجهم بما فعلوا. وبطريقة وأخرى علم الجيران بالذي حدث فسكتوا وخجلوا حتى من الحديث مع جدي لعلمهم بطيبة خلقه وما كان يعاملهم به من إحسان ويعطف عليهم ويقدرهم لفقرهم وليس لغناهم. ومرت الأيام والشهور وجاء رمضان فتوجه جدي على عادته السنوية في الأسبوع الأول من الشهر للإفطار عند الجيران بعد أن أرسل لهم أحد خدمه يخبرهم بذلك. وهنا تأسف الجيران لما فعلوا في حق جارهم الغني تاجر اللؤلؤ الطيب الذي صفح عنهم بتواضعه بعد أن سرقوا بقرته، وصاروا ينظرون له بعد ذلك بكل تقدير وإجلال. وهو بذلك ضرب مثلاً في مقابلة الإساءة بالإحسان تأسياً بمواقف الرسول (ص)». ويضيف حميد: «لا أذكر هذه الحادثة مدحاً في جدي ولكنها الحقيقة لأحد مواقفه من الناس حوله حتى أولئك الذين يسيئون له».
• سيارة «عنتر ناش»:
كان أحمد - كما يقول حميد - بسبب أنه من أغنياء القرية ومثقف ويعرف اللغات، أول من أدخل عدة أجهزة حديثة إلى قرية الدراز، في فترة شبابه، منها أول دراجة هوائية كانت تسمى في القرية (سيكل أحمد) وقد استغرب أطفال الديرة منها فكانوا يفرحون إذا ركب أحدهم على (سيكل أحمد).
كذلك أدخل أحمد أول سيارة (لوري) اشتراها من مزاد الجيش الإنجليزي في البحرين، وكانت من ماركة (إنترناشينال الأميركية) واشتهرت كذلك في الدراز باسم شعبي محرف عن اللغة الانجليزية لصعوبة نطقها وهو «عنتر ناش». كما كان البعض يطلق عليها (لوري أحمد شهاب) باعتبارها كانت الوحيدة في القرية وقد استخدمها أحمد لمستلزمات النقل والشحن لتجارته المتنوعة وتوزيعها لمختلف مناطق البحرين وخاصة المنتجات الزراعية منها. وعندما اشترى غسان - حفيد احمد - سيارة (بيك آب) حديثة بعد ذلك أطلق عليها نفس الاسم (عنتر ناش) تيمناً بسيارة جده القديمة، كما في الصورة.
ويضيف حميد، « كذلك يعتبر والدي أول من ادخل جهاز مذياعاً إلى القرية وكان من ماركة (زينت) ويعمل ببطارية الشحن القديمة ذات الفحم الحجري. واحدث وصوله للديرة خبراً جديداً بين الناس فتوافدوا للاطلاع عليه لأن المعظم لم يرَ مذياعاً في تلك الفترة إلا من كان يقصد منهم المنامة ويزور سوق الطواويش أو المقاهي الشعبية فقط. هذا الجهاز وغيره من إرث وأدوات جدي ووالدي ضاعت بفعل الإهمال وعدم الاهتمام بتراث الأجداد في تلك الفترة وانتقال الإرث الثقافي من يد إلى آخرى.
في الحلقة المقبلة:
- بلغريف يعين مختار الدراز؟
- أحمد عضو في لجنة مسائل الغوص الحكومية.
- وثائق لم تنشر عن فعاليات بحرينية من أرشيف آل شهاب.
العدد 2953 - الأربعاء 06 أكتوبر 2010م الموافق 27 شوال 1431هـ