ذكرنا في الفصل السابق وجود لهجة عربية شمالية من صنف تلك اللهجات التي عرفت باسم العربية البائدة، وأوضحنا أن المقصود بالبائدة هنا أنها غير مستخدمة اليوم بنفس الخصائص التي دونت بها على شكل نقوشات، ولكن ليس بالشرط أن تكون انقرضت بل المرجح أنها تطورت وانصهرت وذابت في لهجات شعوب تلتها اندمجت معها ونتج عن ذلك لهجات عربية أخرى تطورت أيضاً لتصل للصورة التي وصلت لها اليوم وسوف تستمر عملية التطور. وذكرنا أيضاً أن حقيقة وجود لهجة عربية بائدة في البحرين القديمة يستلزم وجود قبائل عربية مما عرفوا بالعرب البائدة استوطنت البحرين في الحقبة التي عثر عليها على نقوش تلك اللهجة، وهذا ما سنحاول تفصيله في هذا الفصل.
ورد العديد من أسماء القبائل العربية البائدة في الكتب العربية القديمة ومنهم من افرد كتاباً خاصاً لهم، وغالبية ما كتب حول هذه القبائل أشبه بالأساطير ولا يعلم مدى حقيقته، لكن هذا لا يمنع أن هناك جزءاً من الحقيقة في كلامهم، يقول جواد علي في كتابه المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: «وقد شك كثير من المستشرقين في حقيقة وجود أكثر الأقوام المؤلفة لهذه الطبقة (أي العرب البائدة)، فعدّها بعضهم من الأقوام الخُرافية التي ابتدعتها مخيلة الرواة، وخاصة حين عجزوا عن العثور على أسماء مشابهة لها أو قريبة منها في اللغات القديمة أو في الكتب الكلاسيكية، وقد اتضح الآن أن في هذه الأحكام شيئاً من التسرع، إذ تمكن العلماء من العثور على أسماء بعض هذه الأقوام، ومن الحصول على بعض المعلومات عنها، ومن حلّ رموز بعض كتاباتهم مثل الكتابات الثمودية. وقد اتضح أن بعض هذه الأقوام أو أكثرها قد عاشوا بعد المسيح ولم يكونوا ممعنين في القدم على نحو ما تصور الرواة. ولعلّ هذا كان السبب في رسوخ أسمائهم في مخيلة الإخباريين» (علي 1993، ج1 ص 298 - 299).
ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن ما سنذكره لاحقاً بشأن القبائل العربية البائدة في البحرين صحيح أو أنه جزئياً صحيح، فقد لا يمت للحقيقة بصلة، ولكن هذا لم يمنع أن بعض الكتاب المتأخرين الذين كتبوا عن تاريخ البحرين قد أخذوا بالروايات القديمة وسلموا بها على أنها حقيقة.
ذكرت عدة أسماء لقبائل عربية بائدة في العديد من الكتب العربية القديمة، وقد قام جواد علي بجمع تلك الأسماء والأخبار المتعلقة بها وذلك في كتابه الموسوعي السالف الذكر، وقد جاء في كتابه عن أسماء تلك القبائل:
«وجماع العرب البائدة في عرف أكثر أهل الأخبار، هم: عاد، وثمود، وطسم، وجديس، وأميم، وجاسم، وعبيل، وعبد ضخم، وجرهم الأولى، والعمالقة، وحضورا. هؤلاء هم مادة العرب البائدة وخامها، وهم أقدم طبقات العرب على الإطلاق في نظر أهل الأخبار» (علي 1993، ج1 ص 295).
من تلك الأسماء تم ذكر بضع أسماء لقبائل عربية بائدة استوطنت البحرين، ونورد هنا تلك الأسماء وبعض أخبارها.
لقد كانت اليمامة موطن طسم وجديس، ويذكر أهل الأخبار أن تلك القبائل تكاثرت وتوسعت حتى شملت مساكنهم مناطق مختلفة في شبه الجزيرة العربية ويرى بعض أهل الأخبار أنهم سكنوا الأحقاف والبحرين (علي 1993، ج1 ص 335). وقد نسب أهل الأخبار أماكن عديدة إلى طسم وجديس، وهي قرى ومدن ذكر أنها كانت عامرة آهلة بالسكان ذات مزارع، وقد بقي بعضها في الإسلام. ومن تلك الأماكن المذكورة «المشقر» وهو حصن بين نجران والبحرين على تل عال وقد سكنته عبدالقيس أهل البحرين (علي 1993، ج1 ص 339).
لا يعرف إلا القليل عن هذه القبيلة وقد عد الهمداني كل القبائل التي أولها «جاسم» وآخرها «عَبس الأولى» من العرب العاربة، وقد ورد أن قبيلة «جاسم» قد نزلوا بعمان والبحرين (علي 1993، ج1 ص 295).
وعلى حد زعم أهل الأخبار أن أفراد قبيلة جاسم هم من نسل «عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح»، وعمليق هذا يعتبره أهل الأخبار جد العمالقة أو العماليق وهو شقيق طسم، ويذكرون أيضاً أن العمالقة كانوا أمماً كثيرة، تفرقت في البلاد، فكان منهم أهل عمان وأهل الحجاز وأهل الشام وأهل مصر، ويعرف أهل عمان والبحرين باسم «جاسم» (علي 1993، ج1 ص 345 - 346).
يلاحظ أن الحديث عن وجود العمالقة، الذين عرفوا بهذا الاسم لضخامة أجسامهم، أنه أشبه بالأساطير. وفكرة وجود عمالقة في قديم الزمان ليست حصرية على فكر معين بل هي شائعة في العديد من الثقافات وهناك فكرة معينة أو مجموعة أفكار أدت لظهور الاعتقاد بوجود عمالقة في قديم الزمان وربط عدد من الأساطير بهم، ومازال البعض حتى يومنا هذا يعتقد بوجود العمالقة في قديم الزمان، وسنقوم بإفراد جزء خاص لمناقشة مثل هذه المواضيع مستقبلاً. لكن هذا لا يمنع أن تكون هناك قبيلة عرفت باسم جاسم وسكنت البحرين ولأسباب معينة تم ربط هذه القبيلة بالعمالقة وبذلك حولت لقبيلة أسطورية.
النظام القبلي - الحضري في البحرين القديمة
بحسب تاريخ النقوش الحسائية يتضح أنه منذ القرن الرابع قبل الميلاد استوطنت قبائل عربية شرق الجزيرة العربية وهذه القبائل تتحدث لهجة عربية شمالية، وقد عاشت هذه القبائل بنظام اجتماعي قبلي - حضري أي أنها استقرت وعملت في المهن الحضرية لكنها في نفس الوقت حافظت على التنظيم القبلي لها. وقد تم التعرف على هذا النظام من خلال النقوش الحسائية.
غالبية النقوش الحسائية التي عثر عليها عبارة عن شواهد قبور، وبعض النقوش كانت قد نقشت على عملات نقدية (قزدر وآخرون 1984) وهذا يؤكد ما ذكرناه سابقاً أن هذه الجماعات العربية التي سكنت المنطقة كونت كياناً سياسياً تولى السلطة في فترة معينة من الزمن، ويؤكد ما رجحه الباحثون أن مملكة هجر التي سبق الحديث عنها والتي قلدت نقود الإسكندر قامت في شرق الجزيرة العربية، وأن كيان هذه المملكة كان جماعات من عرب الشمال. ومن خلال تحليل الأسماء التي وردت في النقوش الحسائية التي تمثل شواهد قبور يستدل على وجود نظام قبلي داخل الثقافة المدنية وهي ظاهرة عرفت في الثقافة السبأية في جنوب الجزيرة العربية وكذلك في المدن والقرى العربية في الحجاز وغيرها وذلك في حقبة قبل الإسلام وبعده (قزدر وآخرون 1984). ومن هنا يتضح زيف تقسيم البعض مجتمع جزيرة العرب ما قبل الإسلام لمجتمع قبلي مبني على النسب ومجتمع مدني، حيث تستطيع جماعة مستقرة مسيطرة على السوق أن تتحكم بالقبائل ويحتمل أن تستقر قبيلة مسلحة مئات السنين في المدن والقرى دون أن تفقد تنظيمها القبلي الأساسي وتزودنا النقوش الحسائية بحالة وثيقة الصلة بالموضوع تتعلق بمجتمع قبلي يحيا في شروط حضرية وأحياناً مدينية كما في ثاج والتي تتشابه إلى حد ما مع مدينة تدمر (بوتس 2003: ج 2، ص 770 - 771).
هناك العديد من الأدلة التي تثبت أن شرق الجزيرة مجتمع حضري، أما الدليل على وجود تنظيم قبلي ضمن هذا المجتمع الحضري فقد وصل لنا عبر النقوش الحسائية، حيث إن صيغة النقوش التي كتبت على شواهد القبور تذكر أسماء الأشخاص المتوفين، فتبدأ صيغة النقش بصيغة استهلالية عادة ما تكون «وجر/ وقبر» ويؤتي بعدها مباشرة اسم الشخص المتوفى (بوتس 2003: ج 2، ص 758)، وعادة ما يكون اسم الشخص ثلاثياً ويكون الاسم الأخير في الغالب اسم القبيلة، فيكتب الاسم في حالة كون المتوفى ذكراً على سبيل المثال (قزرد وآخرون 1984):
وفي حالة المؤنث:
ويلاحظ هنا أن الاسم الوحيد المستعمل في النصوص الحسائية للتعبير عن وحدة اجتماعية سواء كانت قبيلة أو عشيرة أي فرع من قبيلة هو ءل أي (آل) بمعنى «أسرة» والذي يسبقه دوماً اسم الإشارة ذ (للمذكر) و ذت (للمؤنث) فتصبح ترجمة الكلمة (من عائلة) أو (من قبيلة) أو (من أسرة) وهذه الأداة استخدمت في النقوش الصفوية والثمودية للدلالة على القبيلة ولكن انفردت الحسائية بالأداة ذت للمؤنث (قزدر وآخرون 1984 وبوتس 2003: ج 2، ص 764). وأحياناً تكون هناك فروع للقبيلة أو العشيرة وفي هذه الحالة يذكر اسم المتوفى والعشيرة والقبيلة معاً بهذه الصورة (قزرد وآخرون 1984):
(فلان) ذءل (اسم العشيرة) ذءل (اسم القبيلة)
وفي حال ذكر ءل بعد الاسم مباشرة فإنها تلفظ إيل بمعنى إله.
من خلال النقوش الحسائية تمكن الباحثون من التعرف على مجموعة من القبائل التي سكنت شرق الجزيرة العربية في فترة تلك النقوش. ولا نعلم بالتحديد مدى انتشار هذه القبائل في شرق الجزيرة العربية وإذا ما كانت قد وصلت لجزر البحرين أم لا، ولكن من خلال ما عثر عليه من آثار وخاصة العملات والفخار العربي والذي يؤكد وجود قواسم مشتركة بين جزيرة البحرين وشرق الجزيرة العربية.
وفي ما يخص أسماء القبائل التي ذكرت في النقوش الحسائية فيعرف حالياً قبيلتان كبيرتان يتفرع منهما مجموعة من العشائر وهما قبيلة خذن وقبيلة شوذب. وقد ذكر قزدر وزملاؤه تفاصيل التوزيع الجغرافي للقبائل والعشائر التي تم التعرف عليها ويمكن إيجازها هنا:
1 - قبيلة خذن
وقد عثر عليها في النقوش الحسائية التي عثر عليها في ثاج. وتتفرع منها أربع عشائر هي: طبت (ثاج)، جبسي (ثاج)، لي (ثاج)، صبحن.
2 – قبيلة شوذب
وقد عثر عليها في النقوش الحسائية التي عثر عليها في القطيف وثاج. وتتفرع منها ثلاث عشائر هي: عور (رأس تنورة، عين جوان)، يدعب (ثاج، القطيف)، شمت (القطيف).
3 - قبائل أخرى
من القبائل الأخرى التي عرفت وهي قليلة التكرار في النقوش الحسائية هي: ينخ ءل (ينخ إيل) (ثاج)، سعد ءل (سعد إيل)(القطيف)، ءب سعد ءب (رأس تنورة)، كرو (ثاج).
يرى مكدونالد في بحثه السابق الذكر أن اللهجات العربية الشمالية التي عرفت بالبائدة هي مجموعة مستقلة من اللهجات العربية عن اللغة العربية الفصحى واللهجات العامية المعاصرة (Macdonald 2008)، فإذا كان الحال كذلك أين اختفت هذه اللهجات والقبائل التي تتحدث بها؟ هل ممكن للهجة أن تختفي فجأة؟ أم أنها تتطور وتذوب في لهجات أخرى؟ إن حياة الحضر التي عاشتها تلك القبائل واندماجهم مع شعوب وقبائل مختلفة أدى في نهاية الأمر لنشوء لهجة عربية جديدة قريبة الشبه بالفصحى لكن بها تأثيرات للهجات القديمة، على سبيل المثال اللهجة البحرانية بفرعيها في جزيرة البحرين وشرق الجزيرة العربية وأقصد بها اللهجة القطيفية، كلا اللهجتين تشترك في سمات أساسية مميزة لها ويرجح الباحثون أن تلك الميزات نشأت بسبب التأثر باللغة الآرامية (راجع جزء بناء النموذج). ويرى جواد علي أن العرب البائدة كان لهم أكثر من مصير محتمل فيقول: «هذا ويلاحظ أن هلاك العرب البائدة كان بسبب كوارث طبيعية نزلت بهم مثل انحباس المطر جملة سنين مما يؤدي إلى هلاك الحيوان وجوع الإنسان، واضطراره إلى ترك المكان والارتحال عنه إلى موضع آخر، قد يجد فيه زرعاً وماءً وقوماً يسمحون له بالنزول معهم كرهاً لقوته ولتغلبه عليهم، أو صلحاً بأن يسمح الأقدمون له بالنزول في جوارهم لاتساع الأرض وللفائدة المرجوة للطرفين. وقد يتفرق ويتشتت بين القبائل، فيندمج فيها بمرور الزمن ويلتحق بها في النسب والعصبية، فيكون نسبه النسب الجديد. وبذلك ينطمر ذكر القبيلة القديم والأصل الذي كان منه. وقد لا يبقى منه غير الذكريات، كالذي رأيناه من أمر القبائل البائدة» (علي 1993، ج1 ص 353).
العدد 2953 - الأربعاء 06 أكتوبر 2010م الموافق 27 شوال 1431هـ