أن تنتقد أوضاعاً تستحق النقد فأنت، عند البعض من أولئك الذين لا يفهمون أن النقد ضرورة حضارية، مجرد باحث عن «منصب» من تلك التي لا يصلها غالباً إلا ذو حظ عظيم! وإن كنت تمارس مسئوليتك في الدعوة للإصلاح والتغيير الإيجابي - ولمصلحة من في السلطة ومن خارجها - فأنت، عند الفئة ذاتها، لست سوى «متسلق» يريد لفت انتباه «ولاة الأمر» من أجل إسكاته بمنحة أو هبة أو وظيفة! وإن كنت من ذوي التأهيل العلمي العالي وانتقدت بعض الأوضاع من حولك فأنت - بالتأكيد - وخاصة عند المتذمرين من أي نقد، لست سوى طامع في «الوزارة» ولن تقنع بما دونها!
في العدد الأخير من مجلة «جواهر»، يصر سكرتير تحريرها الزميل علي السبعان على سؤالي، في حواره الطويل معي، إن كنت أبحث عن منصب وزاري ما بسبب دعوتي المتكررة لعلاقة من الثقة المتبادلة بين «المثقف» و «السياسي» لمصلحة التنمية في بلداننا وكان ردي ساخراً: من طلب الوزارة فـ «وزروووه»! أي ألبسوه «وزاراً»!
لكنني هنا أرد على تلك المقولة الشائعة في ثقافتنا العربية - وهي ذات أبعاد خبيثة - والقائلة بـ «من طلب الإمارة فلا تؤمروه»، إذ إن من حق من يمتلك التأهيل والقدرة والطموح أن يطمح دوماً في «الأعلى» ولا يقنع بما دون النجوم!
ولكن هل «الوزارة» هي منتهى الطموح وغايته؟
لماذا هذا الهوس بمنصب «الوزير» في بلداننا؟
ألأن الوزارة، في بعض بلداننا، هي المدخل السهل والآمن للثراء والمكانة وربما التعسف والسلطة؟ أم إن «القدسية» التي يحيط بها بعض وزرائنا أنفسهم - حسب الدكتور محمد القنيبط، عضو مجلس الشورى السعودي سابقاً - مكنت بعضهم من تحويل منصب «الوزير» من موقع إداري، قيادي، لفترة يفترض أنها محددة بحجم المنجز ونوعيته، إلى ما يشبه «السلطة المطلقة» التي لا تسمح بالنقد أو السؤال؟، لكن الباحث في «فلسفة الحكم» في كثير من بلداننا العربية قد يجد أنه لا توجد عندنا أصلاً «فلسفة حكم» ولا من يحزنون! حرص بعض المسئولين على ما أسموه بـ «هيبة الدولة» تحول أحياناً إلى هوس تقدم، في سلم الأولويات، على أهمية الإنجاز وسرعته ودقته. أي «هيبة» نتحدث عنها هنا؟ ولماذا هذه «الهيبة» تعني كثيراً الخوف والتخويف؟ ولماذا لا يستبدل هذا الهوس بـ «الهيبة» بأشكال إدارية حديثة تؤصل لعلاقة الاحترام المتبادل بين «الإدارة» - وليس السلطة - والمواطن؟
لو كان «الوزير» في بعض بلداننا يعامل كـ «مسئول»، يُساءل ويحاسب على وعوده وعلى أداء وزارته لما أخذ هذا المنصب هذه القدسية التي تمنح صاحبها مكانة من هو أحياناً كثيرة فوق القانون وفوق كل الناس! ولو تذكر معالي الوزير كم من آلاف الوزراء تقاعدوا أو فصلوا أو ماتوا قبله لأدرك أن الكراسي - فعلاً - دوارة ولأنجز اليوم ما يبقي ذكره طيباً في الغد.
أثناء الدراسة في أميركا، كان لافتاً أن أغلبنا، نحن الطلاب القادمين من بلدان «العالم الثالث»، نتكلم كثيراً في المناصب العليا والوزارية منها بشكل أخص. كثيرون منا حلموا بالمناصب الوزارية بينما زملاؤنا الأميركيون تحديداً نادراً ما يتحدثون في المناصب الحكومية. بل إن بعضهم كان يستهجن فكرة «العمل الحكومي» - وإن اضطر له فذلك غالباً لفترة مؤقتة أو مرحلة انتقالية. طموحهم كان في الأعمال الإبداعية، في القطاع الخاص بتخصصاته المتنوعة من تجارة وإعلام وفنون أو أعمال خيرية أو في مؤسسات المجتمع المدني وغير الربحية.
ولأنني اليوم محاط بعدد كبير من الأصدقاء «الوزراء»، أغلبهم متقاعدون، وقليل منهم على رأس الوزارة، من تشيلي إلى اليمن، فإنني كثيراً ما أرد على من يظن أنه يستفزني بتهمة «البحث عن منصب وزاري»، بالسؤال: ولم لا؟ هل أنا أقل علماً ومعرفة من أصدقائي الوزراء، الحي منهم والمتقاعد؟ أقول قولي هذا وأنا على يقين تام أن «الوزارة»، في الغالب، هي «وهج» مؤقت ولا يبقى سوى العمل الصادق والإنجاز الذي يُصلح من أوضاع الناس ويترك أثراً على حياتهم ومستقبلهم. وهنا أمثلة: الناس في الهند - وإلى اللحظة - تعرف الأم تيريزا أكثر من معرفتها بعشرات من الوزراء والرؤساء ممن مروا على البلاد على مدى عقود. والناس في جامايكا وخارجها تحب المغني الراحل بوب مارلي أكثر من أي وزير مر على البلاد أو في جوارها. والرئيس الأميركي نفسه لا يتأخر دقيقة واحدة في الرد على اتصال من بيل غيتس بينما بعض مساعديه ينتظر لساعات طويلة. قل لي: كم وزير في بلادك تعرف اسمه هذه اللحظة؟
في عالم السياسة والإدارة العليا، هم قلة أولئك الذين يبقون أحياءً في قلوب الناس وفي ذاكرة مجتمعاتهم.
قبل أيام، أرسل لي صديق رابطاً لـ «فيديو» مؤثر للقائد الراحل الشيخ زايد، رحمه الله، وقد كان شديد الغضب يوم عرف أن بعض مواطنيه لا يملكون منازل بل يسكنون بالإيجار. وكان الراحل يسأل مَن حوله بألم: مواطن يسكن بالإيجار؟ وما استطعت أن أتحكم في مشاعر غالبتها دمعة التقدير والإعجاب، ليس فقط لأن الراحل تحدث بحرقة وغضب على حال بعض مواطنيه ولكن أيضاً لأنه - رحمه الله - شرع في مشاريع وبرامج للإسكان جعلت من دولته مثالاً حياً لما يمكن للدولة أن تصنع بالفعل وليس بالقول لمواطنيها. وبمثل هذه المواقف الخالدة تتأسس «هيبة» الدولة التي هي - في جوهرها - محبة متبادلة بين القيادة والمجتمع. وهي التي تعطي لـ «المنصب» وهجه النابع من محبة الناس واحترامهم وتقديرهم.
إقرأ أيضا لـ "سليمان الهتلان"العدد 2952 - الثلثاء 05 أكتوبر 2010م الموافق 26 شوال 1431هـ
"في عالم السياسة و الإدارة العليا، هم قلة اولئك الذين يبقون أحياء في قلوب الناس و في ذاكرة مجتمعاتهم" و الله انك صادق قلة هم من يدرك هذه الحقيقة
من ذكريات الهند التي لاتنسى
الفقرة الاخيرة ذكرتني بأيام الهند ،التقينا بأحد الاخوان الاماراتيين متقاعد ، سألناه احد الامسيات عن وضيفته قبل التقاعد فقال : مرعي هجن ،وكم تتقاضى من الراتب التقاعدي قال : مب كثير 8000ريال في سنة1992م . ونحن البحرينين جامعيين المؤهل وليس متقاعدين وانما نعمل حوالي 11سنة كان رواتبنا بين 400 و500 دينارا فكم ستكون رواتبنا عند التقاعد ،وهذه مشكلة الكثير من المتقاعدين الآن ، لايبقى لهم حتى نصف الراتب بسبب الاستقطاعات البنك والضرائب ولله الحمد والشكر والمنة . هذه مجرد ذكريات اثارها الكاتب المحترم .