الرد الذي توصلت إلى صوغه القيادة الفلسطينية في اجتماعها الأخير في رام الله هو «أضعف الإيمان» لمواجهة الهجمة الاستيطانية في القدس والضفة الغربية. فالرد لا يمكن أن يكون أقل من ذلك وإلا تحوّل موقف السلطة إلى غطاء لسياسة الاحتلال وما يتفرع عنها من ملاحق تتصل بالحصار على قطاع غزة وتغيير المعالم الجغرافية والتاريخية وتهديد أهالي 1948 بالترحيل بذريعة تبادل الأراضي والسكان.
الموقف الفلسطيني لا يمكن أن نتوقع منه أن يكون أقل من رفض المفاوضات في ظل استمرار الاستيطان وتوسيع المستوطنات عمودياً وأفقياً. فهذا الرد يقوم على معادلة واضحة وهي: ما جدوى التفاوض في ظل سيادة منطق الاستيطان الذي يمارسه الاحتلال يومياً وجزئياً ومن دون توقف.
حين تكون المعادلة التي تطرحها حكومة تل أبيب متشابهة الأضلاع بغض النظر عن طبيعة الموقف الرسمي الفلسطيني تصبح الاحتمالات مقفلة من كل الجوانب. «إسرائيل» تقول إن الاستيطان سيستمر إذا توقفت المفاوضات أو لم تتوقف. وهذه المعادلة تعني أن كل الطرق تتجه نحو غاية واحدة وهي أن الاستيطان مسألة خاصة بطرف واحد وعلى الطرف الآخر القبول بها بوصفها تشكل هدفاً مستقلاً عن منطق التفاوض المباشر وغير المباشر.
الكلام الإسرائيلي الذي يستقوي على الجانب الفلسطيني بقوة السلاح والتسلط وعدم الاكتراث بكل المناشدات والضغوط الدولية والعربية والإقليمية يمكن ترجمته من العبرية إلى العربية تحت عنوان واضح وهو أن تل أبيب ترفض السلام ولا ترى ضرورة للمفاوضات إذا كانت غايتها الأخيرة التوصل إلى تسوية عادلة نصت عليها قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
رفض «إسرائيل» لوقف الاستيطان وعدم ردها على دعوة الدول العربية للسلام وتهرُّبها من تنفيذ بنود قرارات دولية تتصل مباشرة بهذا الشأن كلها إشارات تدل على أن الحكومة الإسرائيلية تفضل منطق «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة». وهذا المنطق (دبلوماسية القوة) أخذت به تل أبيب منذ حرب يونيو/ حزيران 1967 رداً على قمة الخرطوم التي أكدت بدورها على رفض القبول بالنتائج السياسية للعدوان.
آنذاك كانت «إسرائيل» في أوج انتصارها العسكري وتعيش في أجواء الاعتزاز بالتفوق وتحلم بالمزيد من التوسع الميداني وضم الأراضي العربية التي احتلت بسرعة قياسية لم تكن تتوقعها. ومنذ ذلك الوقت لاتزال «إسرائيل» تعيش أجواء تلك الفرحة ولم تستطع أن تتخلص من سطوة اللحظات التي حفرت في عقل قياداتها مبدأ التفوق ودور القوة في صناعة التاريخ وتغيير الأزمنة وتحقيق المشروع التوسعي وحلم التمدد من «الفرات إلى النيل».
حتى حين جاء يوم 6 أكتوبر/ تشرين الأول 1973 وتلقت «إسرائيل» خلاله صفعة قوية هزت أركانها واضطرت قيادتها إلى طلب العون العسكري المباشر من الولايات المتحدة لوقف التقدم الميداني العربي في الجبهتين المصرية والسورية، لم تتعلم تل أبيب الدرس ولم تدرك أن المنطقة مقبلة على متغيرات عاجلاً أم آجلاً وبالتالي فإن نظرية التفوق (القوة) لن تستمر طويلاً.
عقدة «الانتصار» في 1967 لاتزال حتى الآن تشكل ذلك القناع المصطنع الذي يخفي هاجس القلق والخوف من التأقلم مع محيط جغرافي - بشري يصعب اقتلاعه أو تعديله بسهولة.
قناع التفوق (القوة) هو الإطار الحديد الذي يعطل عقل القيادة الإسرائيلية ويمنعها من إعادة القراءة والتفكير مجدداً في عامل الوقت الذي لا يعمل على الأمد البعيد لمصلحة «إسرائيل» مهما استجلبت المهاجرين إلى الأراضي المحتلة من شتى بلدان العالم. فهذا العامل الزمني ليس قوة مضافة لـ «إسرائيل» حتى لو نجحت مؤقتاً في استخدامه لتوسيع مستوطنة هنا أو اقتلاع شجرة هناك في الفترة الضائعة بين الحاضر والمستقبل.
الزمن في معاييره الدولية والإقليمية والعربية لمصلحة الجانب الفلسطيني لأن منطق الغلبة (القوة) الذي طغى على ذهن القيادات الإسرائيلية منذ العام 1967 أخذ يتراجع تراكمياً وهو إذا استمر على هذا المنوال لا يستبعد أن يتحول نوعياً وبطريقة مدهشة ومتسارعة لن تقوى تل أبيب على استيعابها وتصورها.
العامل الزمني لا يعمل لمصلحة «إسرائيل» حتى لو أضاعت الوقت لبناء مستوطنات في الضفة أو تهربت من الاستحقاقات الدولية أو كابرت على العواصم الأوروبية أو العربية أو تنكرت لحقوق الشعب الفلسطيني العادلة. فهذا العامل تطوري وتراكمي وبالقياس عليه يمكن التقاط المفارقة بين أمس واليوم وغداً للتعرف على النتيجة النهائية للمعادلة التاريخية.
كل المتغيرات البسيطة والجزئية تشير إلى أن القوة الإسرائيلية (دبلوماسية القوة) تتراجع ولن تكون كافية في المستقبل لضمان حدودها وأمنها مهما استجلبت المستوطنين من الخارج. وعقدة «التفوق» التي تباهت بها تل أبيب في العام 1967 كادت أن تنفك هواجسها النفسية في العام 1973 لولا تدخل الولايات المتحدة لمصلحتها في اللحظات الحاسمة.
مشكلة «إسرائيل» تكمن الآن في استمرار تلك العقدة النفسية وعدم قدرة قيادات تل أبيب على تجاوزها والتعامل مع الزمن بوصفه يحمل في طياته مفارقات يمكن توقع حصولها قبل أن تصل المعادلة المنطقية إليها. فهذه القيادة التي تعيش الآن لحظات نكوص مرضية يمثلها الثنائي نتيناهو - ليبرمان تستطيع العبث بالأرض الفلسطينية وتغيير المعالم الجغرافية والتاريخية بذرائع وهمية شتى ولكنها لا تستطيع أن تعطل احتمال انكسار معادلة التوازن في لحظة يشهد العالم بداية تراجع الولايات المتحدة عن لعب دور القوة المهيمنة العظمى كما كان حالها في 1973 و1982 و1991 و2003.
قوة «إسرائيل» مستمدة أصلاً من جبروت أميركا. وتل أبيب لا تستطيع أن تحتفظ بعقدة التفوق في فترة زمنية بدأت تعترف قيادات الولايات المتحدة بأن قدراتها التدخلية أخذت تتراجع قياساً بالسابق. فالتراجع الأميركي يعني منطقياً بدء تدهور الموقع الإسرائيلي في المنطقة العربية بسبب انتفاء وظيفته التاريخية وعدم حاجة واشنطن إليه في المستقبل.
المعادلة في النهاية ستكون لمصلحة الجانب الفلسطيني مهما بالغت «إسرائيل» في استخدام أدوات دبلوماسية القوة وتهربت من منطق قوة الدبلوماسية ودورها في اختزال الكثير من العقبات التي تقف في وسط زمن يتحول تراكمياً على مختلف المستويات الدولية والإقليمية والعربية.
الرد الفلسطيني الذي صدر بعد اجتماع القيادة في رام الله وأكد رفض التفاوض تحت سيف الاستيطان هو «أضعف الإيمان» لأنه لايزال يتحرك في ظل قوة الدبلوماسية وإطارها العربي المنفتح على دعوة السلام والمصالحة. فالرد متواضع ولا يمكن توقع صدور موقف فلسطيني أقل منه في اعتبار أن القيادة الإسرائيلية أقفلت الطرقات على الملاذات الأخرى وطرحت معادلة متساوية الأضلاع في مخارجها ومداخلها.
«إسرائيل» لاتزال تعيش عقدة التفوق وهي تتوهم أن الزمن ثابت على دقاته ولا يتحرك باتجاه بدائل أو خيارات أخرى. وهذه المراهنة قد تكون صحيحة في الأمد المنظور (ضعف البدائل الجاهزة) إلا أنها تعتبر زمنياً قراءة خاطئة لمعادلة القوة في الأمد غير المنظور.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2950 - الأحد 03 أكتوبر 2010م الموافق 24 شوال 1431هـ