اللبنانيون يهمسون، متى تقع «الحروب الصغيرة»؟ هل تقع قبل 13 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري أم بعد هذا التاريخ؟ الهمس لا يناقش احتمال عدم وقوع تلك «الحروب» وكأن المسألة حاصلة ولا مجال للتحقق من صحتها فهي بمثابة أمر مبرمج لا مكان فيه للمراجعة. الخلاف بين اللبنانيين على التوقيت فهل تنفجر الفقاعة الأهلية قبل موعد زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في 13 أكتوبر أو بعد انتهاء الزيارة. هناك فريق يستعجل موعد الانفجار ويضعه على رأس قائمة الاستحقاقات ولا يستبعد أن تمهد محدلة الاقتتال المسرح السياسي للزيارة. وهناك فريق يتمهل ويرى أن لا مصلحة لقوى «8 آذار» أن تفجر الساحة قبل الزيارة حتى لا تضع الرئيس الإيراني في موقع حرج (قفص الاتهام) يثير مخاوف الدول الكبرى والإقليمية المعنية بملابسات الملف اللبناني.
قوى «14 آذار» منقسمة على الموضوع إذ يصدر عن أطيافها قراءات غير موحدة في تقدير الموقف. فالغالبية ترجح أن فتيل الاحتراق سيبدأ بعد انتهاء موعد الزيارة وما سينجم عنها من خطابات حامية ترفع درجة حرارة بلاد الأرز. وأقلية من هذا الفريق السياسي تستبعد احتمال حصول مواجهات أهلية لأن المعركة تحتاج إلى طرفين مسلحين وهذا الأمر غير متوافر في الساحة اللبنانية.
القراءات كثيرة وكلها تتجه نحو التصعيد وتحت عناوين لبنانية مختلفة. فهناك من يرى أن استراتيجية الدفاع الوطني (السلاح ومرجعية القرار) تراجعت إلى ذيل القائمة ولم تعد مطروحة كأولوية في التصدي لاحتمال استئناف حرب صيف العام 2006 وبالتالي فإن «الحروب الصغيرة» ستكون البديل السياسي لحال الجمود العسكري في الجنوب اللبناني. والبديل المطروح على قائمة الأولويات يشتمل على مجموعة عناوين تعوض ذلك التراجع عن موضوع رص الصفوف لمواجهة العدو.
هناك بدائل وهي الآن تسير في سباق مع الزمن قبل نهاية العام الجاري أو مطلع العام المقبل وهو الموعد المحتمل لصدور «القرار الظني» عن المحكمة الدولية بشأن الاغتيالات السياسية التي حصدت العشرات من 2004 إلى 2008. والقرار الذي يقال إنه سيكون بمثابة الصاعق الدولي لتفجير الساحة اللبنانية يرجح البعض أنه لن يصدر إذا كان مفعوله الآلي دفع البلاد إلى الفتنة لا إلى معرفة الحقيقة.
إلى القرار الظني هناك عناوين أخذت تتراكم وهي بدأت تتجمع في زاوية حادة تحت يافطات «شهود الزور» أو الامتناع عن تمويل محكمة دولية «مسيسة» لا تريد البحث عن العدالة كما يقال بل جرجرة البلاد إلى ميدان الاقتتال.
بعض قوى «14 آذار» يرى أن الحملات الإعلامية ضد المحكمة منظمة وموجهة وهي تتعمد تمويه الصورة حتى تتهرب من المسئولية تحت ستار التخويف والترهيب من مغبة معرفة الحقيقة. وهذا البعض لا يأبه كثيراً بالتهديدات لأنه يرى في التراجع خطوة كبيرة ستعقبها خطوات أخرى لن تتوقف إلا بعد سقوط نظام الكيان في فوضى أهلية لا تقل عنفاً عن الشرارة التي احترقت في 13 أبريل/ نيسان 1975.
هناك قوى في أطراف «14 آذار» تستبعد احتمال الانزلاق نحو العنف الأهلي لأن الظروف الدولية والإقليمية التي شكلت قبل أكثر من ثلاثة عقود ذلك الغطاء الخارجي للانفجار الداخلي ليست متوافرة لا جوارياً ولا عربياً ولا أميركياً. سورية مثلاً التي تطمح إلى لعب دور الطرف الأقوى في المعادلة اللبنانية تحتاج إلى إشارات خضراء من المحيط الإقليمي والمراجع الدولية تعطيها الأذن بالتدخل المكشوف على غرار ما حصل في ربيع 1976. وهذا الاحتمال المطروح يحتاج إلى معدات وأدوات وشروط ليكون قابلاً للتنفيذ الميداني، وهي حتى الآن لم تكتمل مواصفاتها المطلوبة لتتوافق مع تلك التفاهمات التي جرى تداولها مع «إسرائيل» حين أعطيت دمشق الضوء الأخضر للدخول عسكرياً إلى لبنان.
بعض «14 آذار» يراهن على اختلاف الظروف الدولية والفضاءات العربية ليؤسس عليها قراءة سياسية تستبعد انفجار «الحروب الصغيرة» لا قبل زيارة احمدي نجاد أو بعدها. وبناء على هذه القراءة يرى هذا الفريق الصغير (الأقلي) أن الحملة الإعلامية ضد المحكمة الدولية مجرد حفلة تخويف وتهويل للتغطية على موضوع «استراتيجية الدفاع» ودفعه نحو زاوية النسيان. وهناك من يذهب أبعد من ذلك ويربط الحملة بموضوع انفضاح شبكات التجسس التي دخلت في منعطف خطير بعد إلقاء القبض على القيادي في «التيار الوطني الحر» والمساعد الأول للجنرال ميشال عون بتهمة التعامل مع «إسرائيل». وبرأي هذا البعض أن الحملة ضد المحكمة الدولية (شهود الزور والتمويل والقرار الظني) تم توقيت تصعيد حدتها للتغطية السياسية على فضيحة اعتقال العميد المتقاعد فايز كرم الذي أدلى بمعلومات تشير إلى معرفة الجنرال عون بعلاقاته واتصالاته منذ فترة طويلة تعود إلى ما قبل عدوان 2006.
بعيداً عن صحة التحليل الأخير هناك من يعطيه بعض الصدقية لأن مسألة الاهتمام بشبكات التجسس تراجعت إلى ذيل قائمة الأولويات لترتفع مكانها مسألة «شهود الزور» بوصفها أخطر من التعامل مع «إسرائيل» واستراتيجية الدفاع أو التصدي لمخاطر هجوم إسرائيلي يستأنف جدول أعمال لم يتحقق بالكامل في صيف 2006.
تراجع موضوع «إسرائيل» في برنامج مهمات «8 آذار» يقلق بعض أطراف «14 آذار» لأنه يضع «الحروب الصغيرة» على رأس قائمة أولويات ما يؤشر إلى مخاطر انزلاق الكيان إلى ساحات الاقتتال بذريعة أن مسألة التحرير والدفاع والتصدي تحتمل التجميد والتأجيل إلى ظروف مناسبة وبالتالي يمكن التفرغ الآن إلى الداخل حتى تأتي الفرصة «القومية» في زمن لاحق. وهذا الاحتمال لا تستبعده هذه الأطراف ولكنها تشرطه بمجموعة عوامل منها توافر الغطاء الدولي - الإقليمي الذي يفتح الباب لمثل هذا الانعطاف وما يشكله من تداعيات لن تقتصر تأثيراتها في إطار الحدود اللبنانية.
كل هذه القراءات متداولة همساً ولكنها بدأت تخرج إلى العلن حين حدد رسمياً موعد زيارة أحمدي نجاد في 13 أكتوبر. فتاريخ 13 مخيف في الذاكرة اللبنانية (الخصبة والقصيرة في آن) لأنه يعود بعقارب الساعة إلى 13 أبريل 1975. ذلك اليوم الطويل الذي أدى إلى إعادة تشكيل الخريطة الأهلية وتوزع الطوائف على مناطق مسلمة ومسيحية وأعطى فرصة للتدخلات الجوارية والإقليمية والدولية إلى أن تم التوافق على هدنة سياسية وقعت في مدينة الطائف وأقرت نظام المناصفة بين المسيحيين والمسلمين برعاية عربية استمرت تعطي ثمارها الإيجابية من 1990 إلى 2004.
الآن هل بات البلد الصغير على موعد آخر مع حروب صغيرة تعيد تشكيل الخريطة الأهلية وتشطر الطوائف مذهبياً كما هو حاصل في «النموذج العراقي» في بلاد الرافدين. الاحتمال إذا كان مطروحاً لا يحتاج إلى زيارة الرئيس الإيراني في 13 أكتوبر ليتحقق ميدانياً وإنما يتطلب توافقات دولية وإقليمية وجوارية تعطي ضمانات أمنية لـ«إسرائيل» مقابل حصولها على تطمينات سياسية توافق بموجبها على السكوت وعدم التدخل والاكتفاء بمراقبة المتغيرات في الحدود الواقعة شمال خط نهر الليطاني.
بين 13 أبريل و13 أكتوبر 35 سنة من «الحروب الصغيرة» في ميدانها الجغرافي والكبيرة في أبعادها وتداعياتها، وهي إذا تكررت لن تكون نسخة مصورة عن السابق وإنما صورة متطورة لا في طبيعتها العنيفة بل في منظومتها الإقليمية وامتداداتها العابرة للحدود.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2948 - الجمعة 01 أكتوبر 2010م الموافق 22 شوال 1431هـ