العدد 2946 - الأربعاء 29 سبتمبر 2010م الموافق 20 شوال 1431هـ

محمد أركون بعد الرحيل... ماذا سيبقى من مشروع الإسلاميات التطبيقية؟

في ذروة الرحيل المتتابع لعدد من المفكرين والأدباء والعلماء العرب، رحل مؤخراً المفكر الجزائري محمد اركون. ويعتبر اركون احد المفكرين العرب البارزين في النصف الثاني من القرن العشرين. كما يعتبر من بين احد أصحاب المشاريع العربية الفكرية أسوة بمشروع الجابري في (نقد العقل العربي) والعروي في (الايدولوجيا العربية المعاصرة) والنقد التاريخاني، وحسين مروة في قراءته المادية للتراث العربي الإسلامي وتتويج تلك القراءة بكتابه (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية) وطيب تيزيني في (من التراث إلى الثورة/ مشروع رؤية)، وحسن حنفي في (من العقيدة إلى الثورة) ونصر حامد أبوزيد في مشروعه المتمثل في قراءته القرآن من منظور تاريخي والقول بتاريخية النص القرآني.

أما اركون فهو صاحب المشروع المعروف بـ (الاسلامولوجيا) أو الإسلاميات التطبيقية كما أراد هو جريا على ما يعرف في العلوم الاجتماعية بـ (الانثروبولوجيا التطبيقية) ويحدد هذا العلم الذي دشنه فيقول «فهذا العلم الذي دشنته، قبل بضع سنوات، يهدف إلى قراءة ماضي الإسلام وحاضره انطلاقا من خطابات المجتمعات الإسلامية والعربية وحاجياتها الحالية» (الفكر الإسلامي. نقد واجتهاد ترجمة/ هاشم صالح: ص، 35،36) يبدو لي كلام فيه ادعاء كبير! أما مترجمه وشارحه فيعرف الإسلاميات التطبيقية بقوله «يقصد اركون بالإسلاميات التطبيقية تلك المنهجية الجديدة التي اخترعها هو شخصيا لكي يتجاوز منهجية الإسلاميات الكلاسيكية الخاصة بالمستشرقين بعد أن يأخذ كل ما هو مفيد منها» (المصدر السابق، ص197). ويقصد بذلك منهج الفليلوجيا اللغوية في مقاربتها الفكر الإسلامي المتبع في الأدبيات الاستشراقية.

هذا المشروع الذي انطلق منذ حوالي أربعة عقود ابتداءً من كتابه (الإنسية العربية في القرن الرابع الهجري) الذي صدر في بداية سبعينيات القرن الماضي (أطروحة دكتوراه) مرورا بعدد من الكتب على امتداد عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي والعقد الأول من هذا القرن، والتي ترجمها في معظمها شارحه هاشم صالح إلى العربية، ومن بينها «تاريخية الفكر العربي الإسلامي» و»قضايا في نقد العقل الديني» و»القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني» و»الفكر الأصولي واستحالة التأصيل: نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي» و»الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد» و»أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟» و»الإسلام بين الأمس والغد» و»من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي»... الخ .

هذه المؤلفات وغيرها، كلها تمثل حلقات في مشروع واحد هو المشروع الاركوني في قراءة التراث العربي الإسلامي، وفي القلب منه القرآن الكريم، قراءة حديثة ومختلفة عما هو سائد في الثقافة العربية، ووفقا لمناهج وعلوم حديثة في الألسنية الانثروبولوجيا عموما والدينية خصوصا، وكذلك العلوم الاجتماعية والإنسانية خاصة في فرنسا، من قبيل اركيولوجيا فوكوه ومفاهيم الرأسمال الرمزي لدى بوردو والتفكيكية من خلال غراماتولوجيا (علم الكتابة) لـ جاك دريدا، ويمثل هؤلاء حضورا قويا في مشروع اركون سواء بشكل مباشر، أو غير مباشر، فهو وإنْ لم يقر بذلك فإنه يدين لهم بطريقة أو أخرى، هذا فضلا عن حضور مفكرين فرنسيين آخرين استمد منهم المدد، ولكن حضورهم اقل من الأولين، أمثال هنري كوربان في مقاربته للفلسفة الإسلامية عموما والاستشراقية على وجه الخصوص.

ولاشك أن اركون استطاع أن يسجل حضورا فكريا في الساحة الثقافية العربية عامة، وعلى صعيد قراءة ونقد الفكر الإسلامي من خلال توظيف المناهج والمفاهيم الحديثة في الغرب على وجه الخصوص «وذلك عن طريق زحزحة ميدان الدراسة والتحليل باتجاه علم الالسنيات الحديثة، وعلم النفس التاريخي، والانتربولوجيا الاجتماعية والثقافية» (من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي: ص،42). مما يعني أن التراث العربي الإسلامي وخاصة في جوانبه الدينية يمكن أن يدرس ويحلل من زاوية المناهج الحديثة، ولا يتعارض ذلك مع خصوصية التجربة التاريخية العربية والإسلامية. إذْ نحن داخل العالم وليس خارجه، وبالتالي فإننا محكومون بقوانينه، ويمكن الاستفادة من منجزات العلم ونظرياته في بناء علاقة علمية وعلمانية مع هذا الفكر في ماضيه وفي حاضره.

وعليه يمكن القول إن أركون يعتبر احد السابقين من بين أصحاب المشاريع العربية إلى قراءة التراث العربي الإسلامي قراءة حديثة ومنهجية، وبذلك فإن ما قام به يعتبر فتحا في هذا المجال الثقافي/ العلمي، وتدشينا لمرحلة جديدة في كيفية التعامل مع تراثنا بمختلف مستوياته ووجوهه بالاعتماد على منهجيات العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة.

لكن المشروع الاركوني على الرغم من توسله بالمناهج المتنوعة والحديثة والمعاصرة في قراءة ونقد التراث العربي الإسلامي, فإنه في الحقيقة لم يوفقْ في إنتاج معرفي أصيل وحقيقي في مقاربة التراث عامة، أو في ما يسميه الوحي النبوي خاصة، أو القرآن الكريم بشكل اخص، ناهيك عن مدونة التفسير الضخمة والتي طبق عليها دراساته، خاصة تفسير الطبري المشهور.

إن محمد أركون عندما يستعمل مجموعة من المناهج في تحليله للتراث العربي الإسلامي - وهذه ليست مشكلة بذاتها - فإنه لم يتقدم بقراءة نوعية ومتميزة للتراث، بقدر ما أنجز قراءة تلفيقية وخليطا غريبا عجيبا اقرب إلى القراءة السلفية التي ينتقدها من القراءة المنتجة أو القراءة الإبداعية. فهو على سبيل المثال ينتقد المنهج الفللوجي التاريخي (الاستشراقي) بحجة انه وضعي وجزئي وصادم للإيمان إذْ يشير «وفي مثل هذه الحالة نجد أن المتبحر الفللوجي قد صدم الوعي الإيماني بشكل مجاني وذلك عن طريق حلوله التي تظل هشة جدا» (من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي: ص ،41) أما المنهج/ المناهج التي يتوسلها اركون فهي لا تصدم الوعي الإيماني حسبما يرى. وعليه لا يجب الاكتفاء بتطبيق المنهجية التاريخية الوضعية ممثلة في مناهج المستشرقين، بل يجب أن يتم إدخال الأبعاد النفسية والأسطورية والخيالية في التعامل مع التراث العربي الإسلامي خاصة أن هذه الأبعاد لا تقل أهمية عن الحقائق المادية والتاريخية التي تدرسها الفليلوجيا/ الاستشراق. وفي هذه الحال يتساوى عند اركون العلم والأسطورة والخيال واللاعقل.

ومما يميز مشروع اركون أنه في الوقت الذي أعلن فيه انه يقوم بنقد التراث الإسلامي وخاصة المدونة الضخمة في تفسير القرآن وكذلك النظر للنص القرآني من منظور تاريخي، فإنه مع ذلك في مشروعه لم يبارح الأرضية الكلاسيكية في التفسير والتحليل من حيث الجوهر، وظل حبيسا لقداسة وثوابت الأصول مع غطاء حديث من المناهج والاستراتيجيات العلمية الرائجة في فرنسا التي يُمَكْيِجُ به مشروعه وظل يراوح بين الرغبة في إرضاء الجمهور العريض وإشعاره بأنه معهم على الأرضية اللاهوتية نفسها، وبين إرضاء الباحثين المتخصصين والمتبحرين. وهي في حقيقة الأمر قسمة لا يمكن أن تتم إلا من خلال التلفيق الذي يتخذ الصيغة الملطفة في عبارة التوفيق. فإما هذا أو هذا، ولا منطقة وسطى في العلم. وهو في كلا الحالين لم يحظَ بإعجاب لا هؤلاء، ولا أولئك. وهو بذلك يريد أن يشتق طريقا ثالثة بين ما يراه في دراسات المستشرقين الإلحادية والوضعية للتراث، ودراسات المفكرين والمفسرين والفقهاء الإسلاميين، تلك الدراسات التي تتسم بالدغماطية.

وأيضا على الصعيد المنهجي، إذْ يتصدى اركون لنقد التراث الإسلامي وثوابته كما يدعي من منطلق نقدي للخروج من الركود التاريخي الحاصل في كيفية تعاملنا مع تراثنا وتدشين معرفة علمية به. فإنه في المقابل يوظف مناهج ومفاهيم واستراتيجيات، لا تخدم القضية التي ينقدها ويحللها وينتج من خلالها معارف أصيلة نحوها، تمكننا من الخروج من الفهم المدرسي. بل يقوم بالتعمية من خلال ما يسميه بالمعاني والمقاصد والسمات اللسانية الخاصة بالخطاب النبوي التي يقوم بإبرازها. وبالتالي فإن الموضوع الذي يقوم بدراسته لا يهدف من ورائه التحقق من الغث والسمين والصحيح والخطأ في قراءة التراث ونقده، إنما يجاد المعنى.

والشيء الملفت للنظر في مشروع أركون نفسه، أنه قام بتوظيف تلك المناهج الفكرية والعلمية الفرنسية خاصة، والتي تحمل مواصفات ومبادئ هي على النقيض من التفكير الانواري والعقلاني، الذي قامت عليه النهضة الأوربية الحديثة، بما في ذلك كيفية التعامل مع تراثها اليوناني والمسيحي، بل وربما على النقيض من مقاصده هو نفسه والهدف من مشروعه.

وأهم ما اعتمد عليه أركون في مشروعه النقدي هو اركيولوجيا فوكو وتفكيكية دريدا وجيل دلوز وظواهرية بوردو واشراقية هنري كوربان وفهمه المثالي للفلسفة الإسلامية عامة وفلسفة الإشراق على نحو اخص. وهي مناهج وطرق واستراتيجيات قامت على النقيض من عصر الأنوار ومفكريه ونزعته الإنسانية, أو على أساس ما عرف ضد النزعة الإنسانية والسرديات الكبرى، هذا فضلا عن لا تاريخيتها وخلطها لكل تجليات الثقافة وكأنها على صعيد واحد من المعنى والمعقولية والأهمية. هكذا تتساوى الأساطير والعلم بضربة واحدة عند ناقد الفكر الإسلامي.

فالمشروع الاركوني يُفترض في مبتداه ومنتهاه أنه تنويري عقلاني بامتياز أسوة بأصحاب المشاريع الكبرى، لكنه بتوسله لمناهج معادية للتنوير فإنه يكون قد قطع على نفسه وعلى متلقيه إمكانية الدراسة الجدية والعميقة والنوعية للتراث، ووقع ثمة في تناقض لا يمكنه الخروج منه إلا عبر التلفيق والقص واللصق والادعاء بالعلمية شكلا ومعاداتها في المضمون.

لذلك فإن المشروع الاركوني في نقد الفكر الإسلامي - ومع تقديرنا للجهود التي بذلها - لا يؤدي إلى الخروج من اسر القراءات التراثية النمطية لنص الإسلام الأول ولا إلى تجاوز إشكالية التفاسير التراثية المعهودة القديمة والمعاصرة كما أراد هو، ولا إلى مقاربة منهجية حديثة وعلمية للنص القرآني كما أراد أيضا. وأكثر ما باستطاعته عمله، هو أن يلف ويدور حول ما يدعي نقده، وخاصة عندما يقترب من النص المؤسس، ويكون اقرب إلى نظرة السلف من نظرة العلم ومناهجه المضبوطة والدقيقة. هذا فضلا عن معاداته الدفينة للتنوير والعقلانية والعلمانية من حيث المحتوى، بحجة انه لا يريد أن يصدم الوعي الإيماني وبالتالي يقطع على نفسه إمكانية الفهم والنقد الحقيقيين لموضوعه (الفكر الإسلامي). والعلم الحقيقي صادم بالضرورة, وهو لا يريد أن يصدم الوعي الإيماني. فإذنْ ماذا يصدم مشروعه؟

إن أقصى ما استطاعه اركون هو أن يراوح في منزلة بين منزلتين، أولا: منزلة توسل مناهج حديثة وما يعنيه ذلك من تعليق للمقدسات حسب هذه المناهج، ولكنها غير ذات جدوى في المنظور العام، ولا تخرجنا مما نحن فيه لعيوب في المناهج نفسها إذ إن الأداة المنهجية هي ذاتها معطوبة، طالما أن الأصل في المشاريع الكبرى هو التنوير، وليس الترف، خاصة في مرحلتنا الراهنة. وثانيا: منزلة الالتزام بما هو مقدس وخاصة القرآن الكريم، وبالتالي استعصاؤه على التحليل من منظور التاريخ والنسبية. وفي هذا الشأن كثيرا ما كان صاحب مشروع نقد الفكر الإسلامي في المنطقة الرمادية المضببة.

في الأخير يمكن الإشارة إلى أن اركون لم يظل حبيس الفكر الإسلامي في ماضيه إنما ظل على اتصال بحاضره وقضاياه من قبيل سجالاته في قضايا الاستشراق مع كل من المستشرق (فون غرونباوم) ومع المستشرق الآخر (كانتويل سميث)، بالإضافة إلى قضايا الديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان، وغيرها من القضايا الساخنة.

مشروع اركون بدأ طموحا وبآمال كبيرة من قبل صاحبه, لكنه لم يستطع أن يحقق ما عقد العزم عليه لأسباب نعتقد أنها تعود إليه هو شخصيا/ أسباب ذاتية، تتمثل في عدم صحة ودقة خياراته المنهجية العلمية من جهة، والى عدم قدرته على وضع مسافة بينه وبين الفكر الذي يحلله وينقده من جهة ثانية .

لكن يبقى لـ اركون شرف المحاولة والتدشين في مجال مهم جدا من مجالات الثقافة العربية الإسلامية وهو الجانب الفكري الديني، الذي طالما تهيب من الاقتراب منه كثير من المفكرين بسبب السياج السميك من التابوهات. نقول يبقى له سؤدد المحاولة, وبغض النظر عن مدى الفشل، أو النجاح اللذين أحرزهما.

ختاما، نتساءل ماذا سيبقى في مشروع اركون بعد رحيله، وما حجم الرهانات المعقودة عليه؟ مجرد سؤال، إجابته برسم المستقبل.

العدد 2946 - الأربعاء 29 سبتمبر 2010م الموافق 20 شوال 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً