في خضم الجدال بشأن قانون الجمعيات أظهرت القوى السياسية المختلفة شكلا لافتا من أشكال التطرف في المواقف، والبعض الآخر أبدى توجها استغلاليا للاستفادة من حال التطرف العامة لدى الجمعيات من أجل تحقيق مكاسب محددة ومعروفة.
قد يكون الوقت متأخرا للغاية الآن عندما نتحدث عن تقييم مبادرة الجمعيات السياسية لإعداد تصورات موازية لقانون الجمعيات الصادر أخيرا، إلا أن الحديث عنها بشكل أو بآخر من شأنه أن يكشف جملة من الحقائق. فتلك المبادرة عندما ظهرت تزامن معها بروز خلافات على الطريقة التي يمكن من خلالها طرح تصورات الجمعيات على السلطة التشريعية من دون أن تسبب إحراجا للجمعيات المقاطعة لدستور مملكة البحرين وللانتخابات النيابية الأخيرة. حينها كانت هناك طموحات ومرئيات لدى البعض بأن المشروع الذي ستقوم الجمعيات بإعداده بعد فترة عمل مضنية سيلقى طريقه نحو الإقرار والتشريع. ما حدا ببعض القوى إلى الاعتراف بأن هذه الجهود ستكون ملزمة للسلطة التشريعية باعتبارها ممثلة للشعب، وواجب عليها الاستماع إلى كل الآراء خارج قبة البرلمان.
لذلك عندما أقر النواب والشوريون قانون الجمعيات السياسية صدمت القوى المختلفة بالإقرار، وأعلنت تحفظها الفوري تجاهه، وبعضها اعتبره خروجا عن التصور المقترح والمقدم من الجمعيات نفسها لتظهر بعد ذلك التفسيرات والتحليلات التي لم تبتعد كثيرا عن مسألة "التراجع في الإصلاح السياسي". ولا أعتقد أن هناك من أشاد بالقانون واعتبره تقنينا في سياق عملية التحول الديمقراطي الذي يشهده النظام السياسي البحريني، فبغض النظر عن محتواه وحيثياته، فإن هذا القانون يعد أول تشريع متواضع ينظم عمل التنظيمات السياسية في بلدان مجلس التعاون الخليجي التي لم تشهد حتى الآن تأسيس قوى سياسية علنية كما هو الحال في البلاد.
قد تكون طموحات جميع التنظيمات والقوى السياسية أكثر من القانون الحالي بكثير، إلا أنه لابد من إعادة الاعتبار إلى هذا القانون في سياقه الطبيعي. فالمجتمع البحريني مازال يعاني من ثقافة سياسية ضعيفة قائمة على الاتجاهات التقليدية "الطائفية/ المناطقية"، وإذا أتيح المجال للمزيد من الحريات التنظيمية في ظل سيادة هذه الثقافة، فإن الممارسات السياسية ستكون حتما سلبية، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال تحليل الكثير من الظواهر التي شهدها النظام السياسي البحريني في الآونة الأخيرة.
فهناك سلسلة من المسيرات والاعتصامات تقام من دون أدنى مراعاة للقوانين الوطنية، فضلا عن وجود بعض المطالبات السابقة التي تعتمد في الطرح على مبادئ طائفية صرفة، من دون النظر إلى وجهها الآخر، وهذا يمكن رصده في المطالبات المستمرة بإعادة إنصاف ضحايا التعذيب والفترة السابقة التي ساد فيها قانون أمن الدولة، وفي المقابل تسعى بعض القوى السياسية إلى تغييب وتهميش قضية المتضررين من أعمال العنف والاحتجاج السياسي التي رافقت العقد الماضي، وهي قضية لا تمس الأفراد فحسب، وإنما تمس الاقتصاد الوطني وسمعته. كذلك حينما تظهر بعض الفئات لتقوم بمسلكيات غريبة احتجاجا على أوضاع معينة، مثل السعي نحو رمي مقر السلطة التشريعية ببعض المخلفات، في الوقت الذي تطالب فيه الفئات نفسها هذه السلطة بالتحرك من أجل معالجة ملف البطالة.
تلك مؤشرات تكشف حجم الخلل في الثقافة السياسية البحرينية وتدفع إلى القول ان منح المزيد من الحريات غير المنضبطة في نظام يسعى إلى التحول الديمقراطي من شأنه أن يخلق الكثير من المشكلات والتحديات التي قد تهدد الوجود الكياني للنظام والدولة. واستمرار الأوضاع بما هي عليه طبعا يثير أسئلة تتعلق بموقع قوى الاعتدال التي يفترض أن تلعب أدوارا إيجابية في خلق التوازن بين الآراء المتطرفة والإقصائية من جهة، والآراء الواقعية المقتنعة بالتدرج
العدد 1059 - السبت 30 يوليو 2005م الموافق 23 جمادى الآخرة 1426هـ