لا يمكن إلا أن نتنبأ بحوادث سبتمبرية جديدة، فالذي يتابع هذا الهرج من التسويق للديمقراطية الصورية، لا يستطيع إلا أن يتنبأ بأيام مقبلة أكثر قساوة ودموية. لا يمكن لسيدة العالم "واشنطن" أن تستمر في ترنحها "ثملة" عما يجري هنا وهناك، خطاب الإرهاب والتحريض منتشر، بما فيها تلك الدول التي تتبجح الولايات المتحدة بامتداح تجاربها السياسية.
ثمة تباطؤ "متعمد" في قيام الولايات المتحدة بأدوارها الدولية، هذا التباطؤ سيجرها ويجر منطقة الشرق الأوسط إلى ما هو أكثر من حوادث سبتمبر/ ايلول. إما أن تلتزم الإدارة الأميركية "كما تعلن كل يوم" بواجباتها الدولية، وإما ان تتحمل هذا الإرث المتنامي من الكراهية، والذي يزداد في زاويتين متضادتين، الأولى هي الزاوية التقليدية من التيارات الإسلامية التكفيرية، والثانية من الدول "القلقة"، والتي تمر بحال هستيرية من القلق واللاحسم الديمقراطي. فليست الولايات المتحدة جادة في فرض الديمقراطية عليها، أو الكف عن تسليط أضواء نقدها عليها كسورية وإيران.
إذا كانت حوادث سبتمبر قد نبهت الأميركيين إلى ضرورة تعديل مواقفهم الاستراتيجية في الشرق الأوسط، فإنهم على ما يبدو بحاجة إلى "صفعة" جديدة، تجعلهم أكثر قدرة على الإلمام بضرورة الإسراع بهذا الخيار الاستراتيجي. ببساطة أعتقد ان حال "عدم الانتباه"، والتي يدفع الأميركيون ثمنها على الدوام، هي حال مزمنة في السياسة الأميركية الخارجية، على رغم ان معطيات السياسة الدولية اليوم، تأتي على تفنيد أن السياسة الخارجية ليست مرتبطة ارتباطا كليا بالسياسة الداخلية، وحوادث سبتمبر كانت خير مثال!
"أربعة أعوام لتغيير العالم" هو عنوان كتاب للكاتب الأميركي برينو ترتريه، وفيه يحلل الكاتب استراتيجية الرئيس الأميركي بوش الابن للأعوام 2005/ ،2006 إلا أن مجمل ما حوته هذه القراءة السياسية يبالغ كثيرا في تقدير فرص النجاح المتوقعة لبوش ورفاقه "المحافظين الجدد".
إذا قمنا باستثناء النموذج العراقي والقطري، فإننا سنصاب بحال من اليأس حيال ما افرزته حالات النمو الديمقراطي في منطقة الشرق الأوسط. وإذا قمنا بمراجعة الوضع السياسي الدولي، فإننا سنكتشف بما لا يدعو للشك، أن الولايات المتحدة الأميركية بدأت تتناسى فعلا ما وعدت به بعد حوادث 11 سبتمبر، أو أنها تحديدا بدأت في مرحلة من التناسي لكارثية ذلك اليوم، وهي تحس بعد مرور أكثر من أربعة أعوام على الحادثة بأنها في مأمن من أية عمليات إرهابية.
هذا الحال المتكرر من نقص الانتباه، ستأتي للولايات المتحدة عما قريب "ولتعتبر كهانة إعلامي" بعمليات إرهابية قريبة تمسها في العمق.
مازالت البيئة الشرق أوسطية أرضا خصبة لنمو الإرهاب الديني والقومجي، ومازالت الولايات المتحدة تعتقد "جاهلة" بأنها تعرف عدوها تمام المعرفة. إلا أن هذا العدو المتغير والذي يمتلك فرصة المفاجأة لم ينته بعد، وليست تفجيرات لندن الأخيرة ببعيدة عن الذاكرة.
كما كان متوقعا، يعمد أي رئيس أميركي في الولاية الثانية إلى تهدئة الساحة الدولية والاهتمام بالداخل الأميركي، إذ إن المتابع للأداء السياسي للرئيس بوش منذ بداية الفترة الرئاسية الثانية يقر بالقدر الكبير من الوداعة التي بدت تسيطر على مجمل أحاديثه السياسية. إذ لم يكن في ولايته الأولى يتحصل هو وزوجته على وقت كاف لتبادل النكات والأحاديث الودية أمام الصحافيين بشأن مواعيد نومه ومعاناة زوجته!
خلال هذا العام أو مطلع العام المقبل من المفترض أن تكون القاعدة قد رتبت أوراقها من جديد لضربة إرهابية جديدة في قلب أوروبا أو واشنطن، وإن كانت مدريد اكثر حظا في تلقي هذه الضربة، إلا ان القاعدة تدرك أن أية ضربة في واشنطن أو أخواتها، هي أكثر إيلاما وإحراجا للغرب وللرئيس الأميركي تحديدا، وخصوصا إذا ما أولينا بعض الاهتمام بتاريخية "الثأر" في المكون الثقافي العربي.
الولايات المتحدة خلال الفترة الماضية عمدت على زيادة فاعلية مراكزها الديمقراطية بالشرق الأوسط، خصوصا الثنائي الشهير NDI و IRI وهذا ما يحيل إلى ان الطرق الدبلوماسية والسياسية هي الخيار الاستراتيجي لهذه المرحلة، إلا ان المتتبع يجد ان مجمل الضغوط - إن وجدت - على النظم السياسية الشرق أوسطية هي غير كافية البتة، أو هي غير جادة نهائيا، وخصوصا في التجربة المصرية، والتي تلقى فيها NDI "القاهرة" صفعة مؤلمة على الخد! ومع ان الوزيرة السابقة مادلين أولبرايت رئيسة NDI قد ألقت بثقلها كاملا مع حزب الغد المصري متضامنة مع رئيسه أيمن نور وأمينه العام منى مكرم، إلا أن السلطات المصرية ألقت القبض على أيمن نور وأفرجت عنه بصعوبة وهو يتعرض الآن إلى محاكمة مدنية، يشير البعض إلى أن خاتمتها ثقيلة.
ليست الحال في NDI "البحرين" بأحسن حال، فالكثير من السياسيين يعتقدون أن NDI لم تستطع التأقلم مع الحراك السياسي في البحرين، وانها مجرد "بقرة حلوب" لسفر النواب وبعض الإعلاميين والطلبة الجامعيين إلى الخارج للاستجمام! وأعتقد أن NDI البحرين تعلم من البحرينيين أكثر مما علمهم!
كذلك الحال في لبنان، فعلى رغم أن NDI رمت بثقلها في محاولة تنمية التجربة السياسية اللبنانية، إلا أن التجربة اللبنانية اليوم تمر بأمر وأسوء مراحلها في الألفية الجديدة، ومازال المشهد السياسي اللبناني غير قادر على تحقيق أداء سياسي متوازن في خضم معاركه الطائفية، فليس لبنان من المدنية السياسية في شيء، سوى في قشرة بسيطة تعجب الناظر، إلا أنها موغلة في الطائفية والحصصية من الداخل. هذا ما جعل العماد ميشيل عون يحظى بهالة شعبية جيدة "نسبيا"، إذ إن الكثيرين يعتقدون أن لبنان بحاجة إلى من يجره إلى الديمقراطية والمدنية قسرا، لا عن طواعية.
التجارب السياسية الشرق أوسطية، والتي تتسم بتاريخيتها الموغلة في التصلب والجمود، تحتاج من السياسة الخارجية الأميركية إلى ما هو أكثر من التصدق بوعود دعم الديمقراطية والحرية بين فترة وأخرى، فإما أن ترمي الولايات المتحدة بثقلها كاملة في دعم الديمقراطية والحرية، وإما أن تدفع هي الثمن قبل شعوب المنطقة. بمعنى أن الإشكال هو ليس إشكالا بعيدا عن واشنطن، وإن كان حسمها يتم في المنامة أو الرياض أو الدوحة أو القاهرة أو بيروت أو بغداد.
لعل مستشاري البيت الأبيض أصبحوا في غفلة عما يدور حولهم، ولعل الثقة "المفرطة" ستجر الولايات المتحدة عما قريب إلى أزمة جديدة، تأتيهم بأي السيناريوهات لا ندري! إلا ان الذي نعلمه هو أن الشرق الأوسط مازال منطقة مثلى لتفريخ المئات والآلاف من المحرومين الفاقدين لحب الحياة، الذين يعتبرون ان الموت بمعية بعض "الغربيين" ضمانة للجنة، ولمستقبل أفضل لأولادهم في المستقبل. وهذا طبعا ما تتحمله الولايات المتحدة الأميركية أولا قبل غيرها. فليس من المعقول بأن تكون الولايات المتحدة أقوى دول العالم، أن تتذمر أو تتخاذل عن القيام بواجباتها. على الولايات المتحدة الأميركية أن لا تكتفي بالبكاء والتذمر من هؤلاء الإرهابيين، بل عليها أولا، أن تصحح من الأسباب التي ساعدت على تكوينهم، ولعلها تاريخيا تتحمل المسئولية الكبرى عن نشوء هذه النظم التوليتارية الدكتاتورية.
الولايات المتحدة مطالبة ببذل المزيد من الجهود لضمان تعديل صورتها التاريخية المشوهة في المنطقة، هي مطالبة بالدرجة الأولى في تصحيح أخطائها التاريخية، والتي لابد أن تدفع ثمن فاتورة إصلاحها لتلك الأخطاء من دون أن تعتقد أنها تؤدي دور "الرب" في نشره الخير والسلام للعالم. فعالم اليوم المحكوم بالمصالح والنمو الاقتصادي وبتر الحدود هو خيارها التاريخي وليس خيار شعوب منطقة الشرق الأوسط. لابد لواشنطن أن تعي أن قدرتها على استمالة ود حكومات الشرق أوسطية لا يعطيها الأمن الكافي داخليا وخارجيا لتحقيق نموها الإمبراطوري، فالإرهاب "العدو الجديد" لا تديره الحكومات، بقدر ما تديره الأفراد في الاحراش وفي اعالي الجبال.
لذلك، لا يمكن لواشنطن ان تعتقد "غافلة" انها محصنة، ولا يمكن لها أن تتحرك بهذا التباطؤ الذي سيكلفها الكثير، لابد لها أن تحسم أمرها ونهائيا في دعم الديمقراطيات الناشئة ونشر الديمقراطية "التي تحتاجها هي قبل الآخرين"، أو البقاء في خندق الإمبراطورية الخائفة، والتي تثيرها "رسالة تهديد مجهولة" أو طائرة صغيرة "خانتها الظروف الجوية لتحلق فوق سماء البيت الأبيض"
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 1058 - الجمعة 29 يوليو 2005م الموافق 22 جمادى الآخرة 1426هـ