هو واحد من آلاف المعتقلين والمنفيين وعشرات الشهداء الذين سالت دماؤهم وزهقت أرواحهم على تراب هذه الأرض الغالية في السجون والمنافي في الشوارع والطرقات وفي كل قرية ومدينة على أيدي المخابرات العميلة الظالمة.
هو من طاردته المخابرات البوليسية وجهاز أمن الدولة المقبور ودفع ثمنا غاليا قدمه هذا المناضل الكبير حبا وفداء لوطنه ولشعبه وللمبادئ والأحلام.
إن مرحلة النضال التي خاضها عبدالله زاخرة بالكثير من الحوادث المهمة، فهو شعلة من الحماس والاستعداد والتضحية والفداء من أجل الخلاص من قبضة الاستعمار وإحلال الحرية والديمقراطية العادلة.
فمن أرض القضيبية وتحديدا منطقة بيوت العمال كان يسكن عبدالله مع عائلته المكونة من الوالدين وأخ وأختين.
هذه المنطقة الحيوية المهمة عامرة بأهاليها ومبانيها بمعالمها التاريخية وأشهرها قصر الشيخ حمد وجامع القضيبية الكبير وبعض الأحياء الشعبية التي لاتزال تحتفظ بطابعها وتراثها القديم.
ومن هذه المنطقة تخرج الكثير من العناصر المتفوقة على الأصعدة والمستويات كافة، وكان طبيعيا أن يخرج من بينها رجال يحملون فكرا نضاليا ومنهم هذا المناضل الذي برز على الساحة السياسية كواحد من أشهر الكتاب ثقافة بأفكاره النيرة وحسه الوطني.
وعندما أتحدث اليوم عن شخصيته ودوره النضالي فإني أعيد إلى الأذهان تاريخه الحافل بالصراعات الفكرية والعملية ويعني ذلك مدى تقديري له واعتزازي به وبجهده وعطائه اللامحدود الذي يبذله، فهو رمز حيوي من رموز النضال ومثل يحتذى به، إنسان أعطى لبلده على مدار أربعين عاما التي قضاها في صفوف العمل النضالي مع رفاقه كل ما من شأنه أن يضيف في سجلات الإنجازات التي حققتها جبهة التحرير الوطني البحرانية التي انصبت حقيقة في بوتقة الكفاح والتضحية.
ولد عبدالله علي خليفة في العام 8491م وكان مسقط رأسه القضيبية "بيوت العمال" لأسرة بسيطة، إذ كان والده يعمل في شركة بابكو. عانت عائلته من وفيات الأطفال المتكررة وترعرع هو وسط ذلك الخوف من الأمراض والموت.
بدأ مراحل حياته الدراسية في مدرسة القضيبية الابتدائية بشكل سيئ في البداية بسبب عدم وجود توجيه عائلي صحيح وسليم، فالأب والأم أميان وكان عبدالله كثير الهروب والتغيب عن المدرسة، ولكن لإصرار والده ومتابعته الدائمة له انتظم في الدراسة وراح يتفوق واتجه لقراءة الكتب بتوجيه من زملائه الطلبة المتفوقين.
وكانت أصداء الحركة الوطنية تصل وتنتشر بسرعة البرق في كل مكان، إذ الصراع ضد الاستعمار على أشده وذلك في منتصف الخمسينات والستينات، وفي مدرسة الحورة قاد مع رفاقه في انتفاضة مارس/ آذار 56 جماعة شقت طريقها إلى مدرسة المنامة الثانوية للبنين وتدفقت المجموعات الطلابية كالنهر الصاخب وعلى إثرها اندفعت خيول العسكر والجنود المرتزقة وراحت تفرق تلك الأمواج البشرية الغاضبة ولم تهدأ الانتفاضة بل زادت لهيبا ونارا.
في العام 6691م تعرف مناضلنا على مجموعة منتمية إلى جبهة التحرير، فتكاتف معهم وعقدوا الكثير من الاجتماعات وعلى مدى ثلاثة شهور ناقشوا من خلالها المسائل الأولية للفكر الحديث، فانخرط في صفوف الرفاق وانضم مع خلايا تنتمي إلى منطقة القضيبية والحورة ورأس الرمان والفاضل والعوضية. وفي العام نفسه حتى العام 8691م وقعت أكبر ضربة أمنية لخلايا الجبهة ومنها صعد عبدالله إلى اللجنة القيادية للجبهة وكان طالبا في الثانوية ثم في معهد المعلمين الذي كان يسمى عاليا وكان عليه ألا يدرس في الخارج أو السفر، وهذه أحد تعهدات الرفاق بأن يكرس نفسه مع رفاقه والخلايا للكتابة وطبع المنشورات وتوزيعها ودعوة الناس وتوعيتهم.
في العام 5791 كانت تجرى عمليات تصعيد مفتعلة للصراعات السياسية والاجتماعية كمبرر لحل البرلمان، وكان عبدالله ضحية تلك الألاعيب، فقد نشر أحد الصحافيين تحقيقا عن التعليم تطرق عبدالله فيه إلى المشكلات العميقة داخله وكانت الإدارة تتصيد عبارات لتفجرها فأخذوا كلمة التعليم "تعليم استعماري" ليجعلوها قضية كبرى لابد فيها من الاعتذار من أجل تفجير الاضطرابات في الشارع تمهيدا لحل البرلمان، فلم يستجب أحد لرغباتهم وقاموا بفصل عبدالله ورفاقه المعلمين وحرموا وخسروا سنوات العمل.
ولم تكن جبهة التحرير الوطني البحرانية سببا في التصعيد والانفجارات، وإنما هي افتعالات خلقها جهاز الاستخبارات لأن الجبهة كانت أكثر تنظيما وتأثيرا على الشارع العام بسبب واقعية خطها السياسي ومرونتها تجاه أشكال النضال كافة.
ومن جهته كان لديه نشاطه الفكري والأدبي وكان يكتب في الصحافة بأسماء مستعارة، وفاز بجائزة أسرة الأدباء والكتاب للقصة القصيرة، ما دعاه إلى تكريس نفسه باسمه الحقيقي، إضافة إلى ذلك كان يكتب مقالات ودراسات سياسية واجتماعية عن تاريخ البحرين وتطور القصة القصيرة.
كما قدم في مؤتمر الأدباء والكتاب العرب في الجزائر العام 57م وهي سنة حل البرلمان وهي أول وآخر سفرة له في عقد السبعينات، والتقى شخصيات كبيرة مثل الرئيس بومدين وتعرف على الشاعر الجواهري والباحث حسين مروة.
عاد مناضلنا إلى أرض الوطن حاملا معه تلك الانطباعات وكان يهدف من خلالها إلى عرض ما لمسه في ذلك المؤتمر للرأي العام، إلا انه وبعد عملية التصعيد المفتعلة كمبرر لحل البرلمان اعتقل وزج به في السجن، إذ ألقى القبض عليه وفتش بيته بالكامل وصودرت كتبه التي تقدر بثلاثة آلاف كتاب أحرقت أمام عينيه، وظل عبدالله سجينا لمدة ست سنوات قضاها بين زنازن جو وعسكر وجدة ذاق فيها أشد ويلات التعذيب والقهر والمعاملات الوحشية السيئة، ولكن بإيمانه ووطنيته وتمسكه بمبادئه واعتناقه منهج جبهة التحرير ظل واقفا صلبا قويا عنيدا ضد كل التيارات المفتعلة والضارة وعلى رغم علمه بوفاة والدته فإنه كان ندا وعملاقا شامخا واشتد نضاله وعانقه مثلما عانق قلبه حب أمه وروحها الطاهرة... ماتت والدته قهرا وظلما وحسرة على فراقه وعلى ما رأته أمام عينيها لولدها وهو يجر من بين أيديها مقيدا بلا رحمة ولا ضمير.
ولم يتمكن عبدالله من رؤية والدته وودعها على رغم أن السلطات أعادته من جدة إلى المنامة ولكن بعد فوات الأوان، فقد ماتت قبل وصوله وعادوا به من دون علمه ولكنه في النهاية انتصر بمواقفه ومطالبه العادلة.
عبدالله علي خليفة: الكاتب والناقد والقاص السياسي المناضل البارز بقلمه وفكره يعيش اليوم مع أحلامه بين ماض أليم وحاضر تحيطه مجريات الحوادث المتتالية ومستقبل يحلم به أن يرى بلده وشعبه يعيش بحرية وسلام وأمان، يعيش في شقة للإيجار بين كومة من الأجانب الآسيويين، فقد ظل تائه الفكر شاردا من دون عمل لمدة سنتين بعد خروجه من السجن العام 1891م بعدها عمل في الصحافة وبأجر مقطع حتى تمكن من إثبات نفسه في احدى الصحف المحلية وبعد عناء وتعب طويل استطاع أن يحقق لنفسه ولو جزءا بسيطا من أمانيه.
علي الوادي
العدد 1057 - الخميس 28 يوليو 2005م الموافق 21 جمادى الآخرة 1426هـ