يعتبر كتاب "الأموال" للحافظ القاسم بن سلام "أبوعبيد" أحد أهم المصادر الاقتصادية في التاريخ الإسلامي، ويأتي في ترتيبه الزمني الثالث بعد خراج القاضي "أبويوسف" وخراج الفقيه "ابن ادم". فقبل هؤلاء كانت الكتابات الاقتصادية عبارة عن ابحاث ودراسات تتناول مسألة محددة. وبعدهم تحولت البحوث الى كتب جامعة تتناول مختلف المسائل.
ولد ابن سلام في العام 150هـ/767م "وقيل 154هـ/770م" في هراة، وأخذ علومه من فقهاء البصرة والكوفة، وألف أكثر من 20 كتابا في علوم القرآن والفقه واللغة والحديث. وتوفي في مكة في خلافة المعتصم العباسي. وهناك خلاف على سنة وفاته، فذكر البعض سنة 222هـ وقيل 223 وبعضهم الآخر قال 224هـ "838م".
يبدأ ابن سلام كتابه بكلام عام يؤكد فيه على فكرة العدل في الإسلام وصلاحيات الإمام ومسئولياته. فالدين نصيحة والإمارة امانة، والخليفة يقضي بكتاب الله وسنة رسوله. والله بحسب حديث للرسول "يعذب يوم القيامة الذين يعذبون الناس في الدنيا".
وانطلاقا من المبادئ العامة، يدخل ابن سلام في تفصيلات كثيرة عمد الى تبويبها في كتب واجزاء منفصلة درست كل حقل من حقول الاقتصاد الاسلامي ومصادر دخل الدولة ووجوه انفاقه. فشرعية الأموال تعتمد على ما جاء نصه في الكتاب والسنة واحاديث الرسول وكتبه ومعاهداته وهي كلها تشكل الأساس النظري - التاريخي لدراسة مختلف الوجوه التي منها يرد المال ويتم انفاقه على الاصناف وفئات الناس. ففي الكتاب هناك آية ورد فيها ذكر رأس المال "فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون" "البقرة: 279".
الى الآيات والاحاديث اعتمد ابن سلام على كتب الرسول "ص"، وهي بمثابة معاهدات تمت في زمنه مثل كتابه بين المهاجرين واهل يثرب "دستور المدينة"، وكتاب الصلح لأهل نجران، وكتابه لثقيف، ولأهل دومة الجندل "قرية تقع بين دمشق والمدينة"، ولأهل هجر "في البحرين"، وكتابه لأهل أيلة "مدينة على البحر الأحمر وتقع على حدود الحجاز والشام"، وكتابه الى خزاعة "وهم حلفاء الرسول"، وكتابه الى زرعة بن ذي يزن "اليمن" وغيرها من كتب ورسائل الى افراد وقبائل ومناطق ونواح وردت فيها الكثير من النقاط التي هي اشبه بالمواثيق الدولية في زمننا.
اعتمد ابن سلام على هذه الكتب كمصادر اضافية لقراءة المعاهدات وشروط الصلح وتنظيم العلاقات بين الدولة والرعية. ومنها انطلق لتعريف المصطلحات كالغنيمة "هي كل ما اصابه المسلمون من عساكر المشركين بالقتال"، والفيء "هو كل مال وصل من المشركين الى المسلمين عفوا من غير قتال ولا بإيجاف خيل أو ركاب"، والصدقة "وهي زكاة أموال المسلمين"، والجزية "وهي ضريبة تؤخذ من أهل الكتاب"، والعشر "وهي ضريبة تؤخذ من أرض المسلم أو من تجارة أهل الحرب في أرض المسلمين"، والخراج "وهي ضريبة تفرض على أرض المعاهد وهي نوع من الفيء"، والمكس "وهي ضريبة يأخذها الماكس وأصلها الجباية وتأتي من العشور والتجارة".
وبرأي ابن سلام ان الكتاب "والسنة" فرق بين حكم البر والبحر "فجعل ما في البحر مباحا لآخذه على كل حال، وكذلك نرى سائر ما يخرج منه بمنزلته".
ويركز كتاب "الأموال" على مصدرين ماليين لخزانة الدولة وهما: البشر والأرض. ويعدد انواع المال في فترة الرسول وبعد رحيله، والخلافات التي ظهرت بين العلماء على تحديد الأسهم وكيفية انفاقها. ثم يعدد انواع الأرض والاجتهادات التي استنها الخلفاء لتنظيم ملكية الأرض وخراجها.
بعد ابن سلام يأتي كتاب "الاستخراج لأحكام الخراج" لابن رجب الحنبلي الذي صدر في عهد المماليك وبعد انهيار الخلافة العباسية.
يعتبر كتاب المحدث والحافظ ابن رجب الحنبلي عن احكام الخراج من أفضل المؤلفات ترتيبا في موضوعه. فأفكار الكاتب منظمة ومعاني المصطلح واضحة في تتابع سياقه التاريخي أو في تنسيق أبعاد المفهوم في مبناه اللغوي وتعدد استخداماته.
ولد عبدالرحمن بن أحمد بن رجب "البغدادي الدمشقي" في بغداد سنة 736هـ/1335م. وقدم الى دمشق مع والده سنة 744هـ/1343م وسمع ودرس في مكة ومصر، وعاد الى دمشق. وعاصر المؤرخ والمفسر ابن كثير الحنبلي "الدمشقي"، وتوفي سنة 795هـ/1392م تاركا 33 كتابا ورسالة منها "الاستخراج لأحكام الخراج".
جاء كتاب الامام ابن رجب بعد أكثر من 600 سنة على صدور كتاب "الخراج" للقاضي ابي يوسف. وتميز طرح خراج ابن رجب بوضوح الرؤية واتساع آفاقها. فالفارق الزمني ساهم في اشباع الموضوع بحثا ودرسا في تفاصيله من دون ان تتعرض ثوابته إلى التعديل أو التغيير. فالثابت العقائدي استمر على رغم الكوارث التي حلت بالعالم الإسلامي وتوالي النكبات التي اصابته بعد تعرضه لحملات الفرنجة في المغرب والمشرق واجتياح المغول، بقيادة هولاكو، عاصمة الخلافة في 656هـ/1258م وقتل الخليفة المستعصم بالله في بغداد.
كتب القاضي أبويوسف خراجه في وقت كانت الخلافة في أوج قوتها وأقصى اندفاعها. فبغداد في زمنه تحولت الى حاضرة كبرى ومركز اشعاع يستقطب كل الطامحين والطامعين، بينما صارت في عهد ابن رجب قرية معزولة ومحاصرة ومحكومة بالمغول وفي حال اقتتال متقطع مع دولة المماليك في مصر والشام.
كانت دولة المماليك في عهد ابن رجب تحولت الى واقع اثبت شرعيته اثر انتصار المماليك على المغول في موقعة عين جالوت سنة 658 هجرية. وحافظ المماليك في فترة حكمهم على شرعية الخلافة حين بايعوا المستنصر بالله في القاهرة خليفة في سنة 659 هجرية.
وحين أراد الخليفة العودة الى بغداد لاسترداد الملك دعموه بالمال والعتاد الا انه قتل في معركة على ارض العراق.
ولد ابن رجب في بغداد بعد 80 سنة من سقوط عاصمة الخلافة فانتقل مع والده الى دمشق وهو في الثامنة من عمره، وبرع هناك في حقول الفقه والتاريخ فأسعفه الأمر على متابعة الجانب التأريخي لمصطلح الخراج اضافة الى احكامه الشرعية والقانونية. فابن رجب لم يعدل من جوهر الفكرة كما وردت عند ابي يوسف بل استفاد من التطورات الزمنية واختلاف الظروف لبلورة المفهوم وملاحقة تطوره وتبدل تطبيقاته العملية بين فترة وأخرى، الأمر الذي ظهر في وضوح عباراته واحكامه ودقة استخدامه للمفردات والمصطلحات.
عموما تميزت الكتب الاقتصادية الإسلامية، وتعد بالمئات، عن كتب المؤرخين المسلمين بأنها لم تقتصر على عرض الواقعة بل حاولت تفسيرها لفهم طبيعة الحكم الشرعي واختلافه الزمني عن حكم آخر في فترة سابقة. فالمؤرخ عموما كان يكتفي بملاحقة الحوادث ورصد الواقعات كما هي. فنجد مثلا الكثير من المعلومات الاقتصادية في مؤلفات الطبري والمسعودي واليعقوبي ومسكويه ونقرأ التطورات في مجرى الحوادث السياسية وتحولاتها الزمنية. بينما اعتمدت الكتابات الاقتصادية على المعلومات كواقعات تاريخية وحاولت تأصيل مفاهيمها من طريق القياس وتحديد قربها أو بعدها عن الحكم الشرعي. وللأسباب المذكورة شكلت الكتب الاقتصادية قيمة تاريخية ثمينة من جهة المقارنة بين الفترات الزمنية أو من جهة قراءة تطور المفهوم وتكيفه مع اختلاف البيئات الجغرافية والاجتماعية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1057 - الخميس 28 يوليو 2005م الموافق 21 جمادى الآخرة 1426هـ