العدد 1057 - الخميس 28 يوليو 2005م الموافق 21 جمادى الآخرة 1426هـ

أفغانستان... الوزة التي تبيض ذهبا

لم يبخل الرجل على نفسه بلباس وثير. صحيح أنه يرتدي الزي التقليدي الأفغاني لكن القماش حصل عليه من باريس عاصمة الموضة العالمية. اسمه رمضان باخردوست وحصل على شهادة الدكتوراه في القانون بامتياز من فرنسا إذ عاش فيها عدة أعوام وكتب فيها مجموعة من المؤلفات عن الدبلوماسية في منطقة جنوب آسيا. لكنه كان يشعر على الدوام بأنه ضيف من الدرجة الثانية لأنه حضر كلاجئ إلى فرنسا. ولهذا قرر بعد تفكير العودة إلى بلده الأصلي: أفغانستان.

بعد وصوله بوقت قصير عينه الرئيس حميد كرزاي وزيرا للتخطيط وراح يشرف على سير المشروعات التي تقوم بها منظمات المساعدة الدولية في أفغانستان. وهذا منصب حسده عليه كثيرون لأن الاقتصاد في أفغانستان يجرى تسييره من خلال نشاطات منظمات المساعدة التي لا تنتمي إلى الحكومات التي تقول انها تعمل من أجل تحقيق الرفاهية لجميع المواطنين في هذا البلد الذي عرف أكثر من 20 عاما من الحروب والنزاعات المسلحة. لكن وراء الكواليس تجني كثير من هذه المنظمات المتعددة الجنسيات أرباحا طائلة من خلال عملها في أفغانستان على حد قول باخردوست.

يشعر الأفغان منذ وقت أن منظمات المساعدة الدولية اكتشفت جمهوريتهم اليانعة كأنها منجم يحتوي على كميات غير معروفة من الذهب. تحت غطاء المساعدة الإنمائية وإعادة تعمير أفغانستان ضمن المساعدين من مختلف دول العالم وظائف عمل والانتفاع من مشروعات مجزية وتحقيق ارباح حجمها ملايين الدولارات. وسأل رئيس تحرير صحيفة "كابول تايمز" التي تصدر باللغة الإنجليزية: أين هي المليارات الموعودة لأفغانستان؟ كما عبرت صحيفة "أنيس" عن غضبها وسألت عن مصير الأموال التي تبرع بها المجتمع الدولي.

بلغ حجم الأموال التي قدمتها الدول المانحة 4 مليارات دولار وهذا بغض النظر عن العراق أعلى حجم من المال تم توظيفه في بلد كان ساحة نزاع. في الغضون أصبحت كابول مدينة تعج بالمواطنين الأجانب الذين يتجولون في شوارعها بسيارات لاند كروزر اليابانية. من وجهة نظر المواطنين الأفغان العاديين فإن هؤلاء لم يحسنوا الأوضاع المعيشية في أفغانستان بعد مرور 3 أعوام على نهاية عهد حكومة الطالبان. مازال المواطنون يحصلون على ساعات معدودة من الكهرباء ومازالت المجاري معطلة حتى اليوم ونادرا ما تتدفق الماء من حنفيات المنازل أما الشوارع فإنها مكتظة بالحفر. لكن في حي الفيللات "الوزير أكبر خان" تعمل المحركات ليلا نهارا لتوفير الكهرباء والماء. في هذه المنطقة يسكن المساعدون الدوليون إذ قيمة إيجار الفيلا 8 آلاف دولار شهريا. رغب وزير التخطيط باخردوست أن يعرف أين ينفق موظفو منظمات المساعدة الدولية أموالهم وكم تبلغ نفقاتهم على السيارات والإيجارات العالية وأيضا على مشروعاتهم. وطلب منهم الكشف على الأقل عن دفاترهم المالية لكن قلة منهم استجابوا لهذا الطلب. 437 منظمة من أصل 2355 منظمة استجابت لطلب الوزير الأفغاني مما دفعه إلى تهديد الآخرين بإغلاق مكاتبهم. غير أن الرئيس كرزاي أوقفه في اللحظة الأخيرة لأنه لم يرغب في إثارة خلاف مع منظمات المساعدة غير التابعة إلى حكومات وقبل كل شيء ليس مع ممثلي البلدان الذين ينتمون إليها. فهؤلاء في نهاية الأمر يخططون لاستثمار 15 مليار دولار حتى حلول العام 2009 في تحقيق مشروعات في أفغانستان. تنتمي كبرى هذه المنظمات إلى بلدان لها نفوذ مؤثر على القيادة الأفغانية أبرزها الولايات المتحدة واليابان وألمانيا وبريطانيا. لم يسكت الوزير الجديد باخردوست على الإهانة وقدم استقالته وأعاد سيارة الخدمة وانسحب من قصر الرئاسة. وقال بلهجة فرنسية بطريقة لا تخفي غضبه: هذا نظام فاسد يخدم الأغنياء ويتجاهل الفقراء.

لكن هذه ليست إجابة واضحة على السؤال القائل: أين تذهب أموال الدول المانحة وكم منها يخدم مصالح المواطنين؟ تعتبر أفغانستان من أفقر دول العالم إذ لا يزيد المدخول السنوي للفرد الواحد فيها على 200 دولار في العام. في الوقت الحالي يحقق الأجانب أرباحا طائلة في أفغانستان. وتتنافس مئات شركات تقديم المشورة للفوز بنصيب من موازنة الدولة ويقدر عدد هذه الشركات بنحو ثلاثة آلاف شركة. فجأة أصبح في هذا البلد عدد من المستشارين يزيد على عدد الطيور والكلاب التي تجول في شوارع كابول على حد قول موظف يعمل بالسفارة الأميركية منذ عامين. وكشف دبلوماسي ألماني أن الأمريكيين يوفرون ربع قيمة أموال المشروعات لمنظمات مساعدة أجنبية. وليام سترونغ البالغ 67 عاما من العمر ينحدر من كاليفورنيا وقد فازت شركته للتو بعقد قيمته 30 مليون دولار. سبق أن عمل سترونغ صاحب شركة مهىه حفم ا في أماكن نزاع أخرى ويقطن في فيللا إيجارها الشهري 12 ألف دولار. يقضي عقده بالعمل في قياس الأراضي وتحديد ملكية أصحابها. في الوقت الذي أعرب فيه سترونغ عن فرحته البالغة بالفوز بمثل هذا المشروع الكبير إلا أنه أشار إلى صعوبة الحصول على موظفين وعمال يهتمون بالعمل أكثر من اهتمامهم بالمال. في المنطقة نفسها يقع مكتب شركة منافسة اسمها مفىه ذى التي تبلغ موازنتها السنوية في أفغانستان مئة مليون دولار. بينما نجح مدير فرع الشركة في أفغانستان إد رحال بتعيين 70 مستشارا في الحكومة المحلية إلا أنه بعد مضي 3 أعوام على عمله على رأس جيش صغير من الخبراء، لم يساعد في تأسيس وزارات تعمل باستقلالية عن مساعدة من خبراء دوليين وليس هناك العدد الكافي من الأفغان الذين بمقدورهم تحمل مسئولية إدارة مؤسسات الدولة. غير مسموح لموظفي رحال التحدث مع الصحافيين وإن قاموا بذلك غير مسموح لهم سرد الكلام الكثير. تحدث مستشار يعمل بوزارة المالية، طبعا طلب عدم نشر اسمه، عن سبب وجوده في منصبه في العاصمة الأفغانية وقال انه يتقاضى عن عمله في كابول مثل المبلغ الذي كان يتقاضاه في العراق لكنه رفض الإفصاح عن قيمة الأجر الذي يحصل عليه: سر المهنة. غير أن هذا السر معروف ذلك أن منظمات المساعدة الأميركية تمنح موظفيها العاملين في أنحاء العالم أجرا يوميا قيمته 840 دولارا.

القليل فقط من السياسيين في كابول عرفوا قبل فترة قصيرة قيمة الأجور التي يحصل عليها موظفو منظمات المساعدة الدولية. ويعتقد أن هؤلاء يحصلون في أفغانستان على ألف دولار يوميا من البنك الدولي أو من بنك التنمية الآسيوي. قبل وقت قصير تسربت قائمة بالأجور أثارت هزة سياسية في كابول. أحد موظفي شركات الخدمات البريطانية ءهم حصل لقاء 180 يوما من العمل في مكتب تنسيق المساعدات على 207 ألف دولار بما في ذلك تكاليف المعيشة. وحصل موظف آخر على مبلغ 242 ألف دولار نظير العمل 241 يوما. وثار غضب وزراء في الحكومة الأفغانية الذين شكوا من أن هذه الأجور تزيد عشرة أضعاف رواتبهم. يزيد عدد الموظفين الدوليين الذين يعملون في أفغانستان مثل موظفي الشركة البريطانية على مئة موظف. قال باخردوست ان عشرة في المئة فقط من الموظفين يعملون بجدية وإخلاص أما الآخرون فإنهم كسالى.

وقال أنور الحق أحادي الذي خلف باخردوست في منصب وزير المالية انه سيأخذ على عاتقه فتح تحقيقات لمعرفة وظيفة كل موظف دولي يعمل في البلد. لاشك أن أحد الذين يملكون معلومات وافية عن هذه القضية يجلس في مكان ما داخل السفارة الأميركية في كابول المحصنة وتعرف باسم سجن بخمسة نجوم. أحد الموظفين الذي تبرع بالكشف عن معلومات بهذا الصدد طلب عدم نشر اسمه وقال ان الحديث عن القضية لا يصب في مصلحة شركة العلاقات العامة التي يعمل لها. وقال الرجل انه قبل عام حصلت السفارة الأميركية على أمر من واشنطن: اصنعوا معجزة وابنوا أفغانستان وبأسرع وقت ممكن. جاء في الأمر أيضا: حتى يونيو / حزيران 2004 يجب أن يتم خلال ثلاثة أشهر إنشاء 700 مستشفى ومدرسة وإصلاح شبكات الكهرباء والماء. وعلق مدير مؤسسة المساعدة الأميركية صسء باتريك فاين في أفغانستان: طبعا كانت هذه خطة جنونية. منذ ذلك الوقت يعمل الجميع في هذا البلد تحت وطأة ضغط هائل لتقديم الدليل على نجاح عملية إعادة التعمير. ولهذا نتائج كارثية: قال موظف السفارة الأميركية: نحصل على نوعية سيئة مقابل أسعار عالية ويحصل على المشروعات أشخاص لا يستحقونها وتهدر الأموال بهذه السهولة. وأضاف: ينبغي أن يتوقف العمل في إهدار الأموال ومن الأفضل لو أنهم توقفوا عن إنشاء المستشفيات والمدارس وضخ الأموال وبدأوا حملة تعليم وتأهيل للشعب الأفغاني كي يشترك بنفسه في أعمال بناء المدارس والمستشفيات إذ لا نترك هنا سوى مبان سرعان ما ستنهار بعد أن نغادر هذا البلد. محمد أبرار البالغ 50 عاما من العمر درس الهندسة المعمارية وهو من المهندسين القلائل في أفغانستان الذين لديهم كفاءة عالية في هذه المهنة. وهو يعمل في بلده في مشروعات حصلت عليها شركات أجنبية. قال محمد ان المنظمات والشركات تحقق المنفعة من وراء مشروعات إعادة التعمير ويجرى تقاسم العمولات بين مانحي المشروعات والمستفيدين منها. ومن من الأفغان يعقد علاقات جيدة مع هذه المنظمات فإنه يحصل على بضائع معفاة من الجمرك عن طريقها. في النهاية يحصل عمال البناء على أجور متدنية على رغم أنهم من يجعل المستشفيات والمدارس تقف على أقدامها. لكن محمد قال أيضا انه من الصعب فرض رقابة على هذه العملية وحصر الفساد المنتشر في كابول لأنه جزء من النظام. لا أحد يملك وظيفة عمل ثابتة ودائمة وكل يسعى إلى الحصول على المال بأي طريقة ولو كانت بصورة غير مشروعة.

هناك مشروعات كثيرة لم تتحقق بالكامل على رغم أن فرق تلفزيون أميركية كانت هنا وصورت الأقسام التي تم بنائها وتجهيزها. يعتقد بعض الأفغان أنهم وقعوا ضحايا خدعة. عند افتتاح مدرسة مولتها اليابان جاء فريق تلفزيوني ياباني وقام بتصوير الطبقة الأرضية التي تم تجهيزها كما صور أعضاء الوفد الياباني الرسمي. لم يتحدث أحد من أعضاء الوفد مع سكان المنطقة ولم يسألهم الفريق التلفزيوني عن رأيهم في المشروع الذي لم يكتمل حتى اليوم. وقال المواطن أحمد دجان: المهم أنهم تقاضوا أجورهم العالية. مستشفى في منطقة أبو خوماري اضطروا إلى هدمه لأن شركة سابقة أتمت أعمال البناء بصورة سريعة وركيكة ما جعل المكان مهددا بالانهيار في أي لحظة. مديرة مكتب المؤسسة الألمانية للتعاون التقني في كابول جيزيلا هايفا أعربت عن استغرابها للسرعة التي تمت بها بناء مشروعات بتمويل من الحكومة الألمانية التي تمنح أفغانستان سنويا 80 مليون يورو. لكن ليست جميع المشروعات ذات منفعة للسكان المحليين. فقد افتتح السفير الألماني في أفغانستان راينالد شتيك مشروع مقر سكني للطالبات بلغت تكاليفه 850 ألف يورو. لكن بيت الطالبات حصل فقط على 20 طلبا بالسكن فيه لأنه من الصعب أن تعيش طالبة أفغانية خارج بيت والديها في مجتمع محافظ جدا. وقال موظف السفارة الأميركية وكأنه يكشف عن سر لغز محير: كل نبأ جيد عن عملية التعمير في أفغانستان هو نبأ جيد عن سياسة الولايات المتحدة في الحرب المناهضة للإرهاب. في الغضون يبحث وزير التخطيط السابق باخردوست عن وظيفة عمل جديدة. حلمه الكبير أن يؤسس ويدير مؤسسة تكافح الفساد في مؤسسات الجمهورية الأفغانية ا

العدد 1057 - الخميس 28 يوليو 2005م الموافق 21 جمادى الآخرة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً