قبل عامين تقريبا، زار أحد الأقارب المقيمين في دولة الإمارات العربية منذ ربع قرن البحرين، وكانت له معاملة يحتاج إلى إنجازها من المحكمة. وفي أثناء الانتظار كان يتلفت يمينا ويسارا، كأنه يتفحص وجوه المارة من مراجعين ومحامين وعاملين في أقسام وزارة العدل. وبعد قليل سألته عما شد انتباهه بقوة، فقال: "الجميل أنكم في البحرين كل من يعمل في المحكمة من البحرينيين". وتذكرت حينها أنه قادم من بلد لا يمثل فيه الشعب الأصلي غير 12 في المئة.
قلت له: "لكن هذا الموضوع أصبح عبئا بدل أن يكون ميزة، هناك خريجون كثيرون، والبلد يعاني من بطالة وإسكان وصحة وتعليم... مشكلات كثيرة، ولا توجد خطة للخروج من المأزق".
سكت قليلا ثم قال: "انظر، البحرين ليس لها حل إلا أن تتحول إلى ورشة صناعية كبيرة. لديك شعب متعلم، أعداد كبيرة من الخريجين، عمالة وطنية متوافرة... وما ينقصكم هو الإرادة".
ربما يكون التشخيص صحيحا إلى درجة كبيرة، وربما يتفق الكثيرون على الحل الذي اقترحه وربما لا يتفقون، لكن إحدى نقاط الضعف لدينا هي أن "الميزات" التي تتمتع بها البحرين تحولت إلى أعباء على التنمية وعلى الحياة كلها. وما ينطبق على التنمية ينطبق أيضا على السياسة والشأن العام، فهنا أيضا تتحول المزايا إلى أعباء. فهذا الشعب العريق المتعطش للحرية والكرامة وتوفير اللقمة الشريفة، مازال يصارع في هذا الميدان منذ عقود وعقود. ما ترونه من توترات واحتقانات في جوهره تضارب مصالح بين فئات تملك وتريد أن تمتلك كل شيء، وبين فئات لا تتوافر لديها أبسط الاحتياجات، ولا يسمح لها حتى بالحلم بالعيش الكريم.
هذه المسألة واضحة لكل من قرأ تاريخ البحرين الحديث، لكن هناك بعض الأقلام المشبوهة التي تحاول ترويج نظرية "المؤامرة" هذين اليومين، وإعادة "حدوتة" الانقلاب و"محاولات إسقاط النظام"، بعد أن أصبح العالم كله يدرك سلمية تحركات هذا الشعب، وسعيه لحل مشكلاته اليومية الخانقة.
هناك كتابات تشم فيها روائح "الأجهزة"، هذه الأجهزة التي هذب أظافرها الإصلاح وما يتطلبه من تعامل حضاري مع المواطنين، لكن هذه الكتابات "الاستخباراتية" تطل من جحورها السرية كالجرذان، لتحرض على القمع والسجن وتكميم الأفواه. عاشوا عبيدا ويفضلون أن يموتوا عبيدا، مثل حمار جحا: عاش حمارا ومضى حمارا. وهم في سبيل ذلك يفضلون أن يرهنوا مستقبل البلد والشعب كله بأوهامهم وهواجسهم وأمراضهم النفسية وحبوب "الهلوسة". تعيس من يفكر "زرنوقيا"، وأتعس منه من يكتب ليحظى بدرجة في وظيفته، وما أبلغ الحديث الشريف: "تعس عبد الدرهم والدينار".
ولأن الأراضي انتهت، ولأن العطايا لها حدود وليس للنفاق والتزلف حدود، فإن أحدهم من كثرة ما تزلف وتقرب، أحرج المعطين، فأرسلوا إليه "مسج" عبر طرف ثالث: "عاد خفف من كتاباتك، أحرجتنا! عندك سيارة آخر موديل، وعدة أراضي، وبيت فخم ضخم، بعد شوله تكتب هاللون، كفاية"!
مثل هذه الفئة الطفيلية، من الأسباب الخفية لشحة الأراضي وأزمة الإسكان، واختفاء العقاقير من صيدليات وزارة الصحة، وهم وراء توتير الأجواء الأمنية، وفي المجمل وراء استمرار الأوضاع الخاطئة، يعملون كالسد المنيع أمام أي إصلاح للمجتمع أو تصحيح للمسارات الخاطئة في الماضي لتدفع الأجيال المقبلة ثمن امتيازاتهم وغتراتهم وعقالهم... وحتى ثمن عقاقير الهلوسة!
هذه الفئة الموتورة، المسكونة بنظرية "المؤامرة"، والمشحونة بلغة التربص بالآخر، هي من أسباب الاحتقان في البلد، إذ تدأب على النفخ في كير الفتنة، "والفتنة أشد من القتل" كما يقول القرآن، دأبها التحريض على ارتكاب التجاوزات على حقوق المواطن وتزيين الأخطاء.
هذه الفئة "الطفيلية" الماجنة، هي التي تنخر في عظام الوطن كما يفعل السوس، تشيع الأحقاد، وتدعو إلى إثارة الضغائن، لم تدع يوما إلى خير، ولم تحمل راية رشاد. وتسأل عن الثمن؟ دفع كلف العلاج، أو قطعة أرض، أو سيارة "لكزس". آخر الداخلين إلى هذا المستنقع موظف علاقات عامة، ربما يطمح إلى "لكزس" هو الآخر، وربما يتطلع إلى مقعد في مجلس النواب القادم، كما يقول بعض المراقبين، حتى لو كان عن طريق الكذب والتزييف وخلع الملابس الداخلية!
يا صاحبي... متى تتحول البحرين إلى ورشة صناعية كبرى مع هذا الكمية المرعبة من الطفيليين المنافقين؟ شعارهم الخالد: "مش كفاية"، لو ابتليت بهم اليابان لما قامت من كبوتها إلى يوم القيامة
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1056 - الأربعاء 27 يوليو 2005م الموافق 20 جمادى الآخرة 1426هـ