العدد 1056 - الأربعاء 27 يوليو 2005م الموافق 20 جمادى الآخرة 1426هـ

لندن حائرة بين المحافظة على هويتها والدفاع عن سكانها

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

هل تنجح بريطانيا في اعتماد سياسة "إسرائيل" في التعامل مع "المجتمعات المتطرفة" أم انها ستنزلق نحو سياسة قد تكون كلفتها أعلى بكثير من تلك الخسائر التي سببتها التفجيرات التي ضربت لندن في السابع من يوليو/ تموز الجاري؟ هذا السؤال اخذت تطرحه الكثير من الجهات السياسية في بريطانيا. وكالعادة هناك اجابات مختلفة. بعض الاتجاهات يوافق على اعتماد الاسلوب الإسرائيلي اذا كان يوفر الاستقرار النفسي للبلاد. وبعض الاتجاهات يعارض هذا السلوك لأن نتائجه قد تكون كارثية على سمعة بريطانيا وستجلب المزيد من الاعداء وتوسع دائرة الخصوم.

الموافقون يدافعون عن موقفهم لأن الحكومة لا تملك خيارات أخرى فهي مضطرة إلى اللجوء الى تلك السياسة لحماية المجتمع الأهلي من ضربات المتطرفين.

المعارضون يدافعون عن موقفهم لأنهم يعتبرون بريطانيا غير "إسرائيل". بريطانيا تعتمد سياسة المجتمع المفتوح والمنفتح والمتسامح والمتعدد في ثقافاته والوانه ودياناته وجنسياته. فطبيعة المجتمع لا تتحمل سياسة "اطلق النار للقتل" لأن ذاك السلوك سيؤدي الى ارتكاب الكثير من الاخطاء نظرا إلى تركيبة العاصمة واختلافها عن النماذج المنغلقة أو تلك التي تعتمد سياسة التفرقة العنصرية. فبريطانيا مثلا لا تستطيع بناء جدار الفصل العنصري وتعزل كل الاقليات في داخله وتمنع على سكانه التحرك خارجه. وبريطانيا لا تستطيع تغيير دستورها أو تعديل قانونها والتمييز بين مواطنيها لأسباب ثقافية أو عرقية أو دينية أو قومية.

وبسبب اختلاف طبيعة المجتمع وتركيبة السكان وتاريخ الدولة يصعب على بريطانيا ان تتخلى عن الانفتاح والتسامح والتنوع وتغلق أبوابها على العالم وتخضع المواطنين للرقابة اليومية وتضع كل المقيمين فيها في دائرة الشك.

اذا هناك مشكلة حقيقية في الانزلاق وراء النصائح الاسرائيلية واعتماد سياسة القتل لمنع المتطرفين من تنفيذ عملياتهم. وهناك أيضا مشكلة الأمن وتأمين حياة الناس وحمايتهم من احتمال تكرار تلك التفجيرات.

المشكلة مزدوجة. وفي الحالين هناك سلبيات. الا ان تغيير هوية لندن يحمل الكثير من المخاطر على بلد منفتح ويعتمد الثقة في علاقات الدولة بالمجتمع وفي علاقات الناس وتعاملهم اليومي في الحياة العامة. هناك مشكلة فعلا وهي بدأت تظهر شيئا فشيئا على ملامح المدينة وصورتها الحضارية.

فالاجراءات الأمنية التي اضطرت الحكومة البريطانية الى اتخاذها لاحتواء تداعيات تفجيرات 7/7 بدأت تنعكس سلبا على الحياة العامة لسكان العاصمة.

فالاجراءات كانت ضرورية ولكنها اعطت الشرطة صلاحيات استثنائية للمراقبة والمتابعة والملاحقة وصولا الى اطلاق النار على أي هدف مشتبه فيه.

وبسبب المخاوف من تكرار يوم التفجيرات اصبحت الاهداف المشتبه فيها لا حصر لها. فالكل خائف والبعض يراقب البعض. وكل حركة لها أكثر من معنى ويمكن للشرطة ان تفسرها بطريقة غير اعتيادية. فالمدينة الآن لم تعد كما كانت والكل حائر في أمره ومتردد في الموافقة على تلك الاجراءات أو الاعتراض عليها. فهي اتخذت لحماية السكان ولكنها اثرت سلبا على الحياة المدنية وعلاقات الناس وتعاملهم. وجاء حادث مقتل الشاب البرازيلي جان شارلز دي مانذاز على يد الشرطة السرية في محطة للقطار ليجدد النقاش بشأن قانونية الاجراءات. فالشاب اشتبهت الشرطة به ولاحقته وهرب خوفا منها وحين ادركه الشرطي اطلق على رأسه ثماني رصاصات اردته قتيلا وتبين لاحقا انه بريء ولا علاقة له بالشبكة الارهابية.

هذا الحادث اثار الهلع مجددا لأن ما حصل مع الشاب البرازيلي يمكن ان يتكرر مع أي شاب آخر لا يجيد الانجليزية أو يحمل حقيبة أو تصرف بطريقة مريبة أو اضطر للركض حتى لا يتأخر على موعد. فالمدينة كبيرة جدا ولا يمكن ضبطها ضمن حركات محددة وتصرفات لا تثير الشبهات. والمدينة ايضا متنوعة في عاداتها ويزورها سنويا قرابة 18 مليون سائح من مختلف شعوب العالم، وبالتالي فإن امكانات توحيد سلوك البشر مستحيلة في اطار تلك الاجراءات الأمنية.

"إسرائيل" دولة مختلفة وتاريخها بدأ من سياسة طرد سكان البلد وتوطين مهاجرين من مناطق مختلفة يؤمنون بدين واحد ويعتقدون بأن الأرض لهم ولا يحق لغيرهم العيش فيها.

هذه السياسة الاسرائيلية من الصعب ان تعتمدها بريطانيا وبالتالي فإن امكانات نجاح سلوك "اطلق النار للقتل" لانقاذ الناس من احتمال حصول تفجير محدودة جدا وقد تدفع الشرطة الى ارتكاب المزيد من الاخطاء ضد ابرياء مروا مصادفة في هذا المكان أو تصرفوا بطريقة أثارت شبهات معينة.

سياسة السيطرة على المجتمع وتحديد هويته ورصد تصرفاته ومراقبتها يوميا تنجح بحدود نسبية في دول تعتمد التفرقة العنصرية وتعزل الناس عن بعضها ببناء جدران تمنع المجموعات الأهلية من الاتصال ببعضها. هذه السياسة مستحيلة في بلد مفتوح ومنفتح ويحترم تقاليده ويحرص على تعزيز ثقافة التعدد والتسامح.

بريطانيا الآن بدأت تتغير ملامح صورتها. فالكل خائف. وكل من يحمل حقيبة يتعرض للتوقيف والاستجواب والتحقيق. واحيانا يتعرض أصحاب البشرة الداكنة "سمراء أو سوداء" الى المراقبة أكثر من اصحاب البشرة الفاتحة. وهذا يعني ان الشكوك اخذت تتجه نحو دائرة ليست بعيدة جدا عن التفرقة العنصرية.

المدينة تغيرت والشرطة البريطانية التي اشتهرت عالميا بحسن تعاملها مع الناس تحولت الى قوة مخيفة بعد ان اعطيت صلاحيات استثنائية وحق قتل المشتبه فيه حتى لا يرتكب جريمته. وهذا يعني في لغة السياسة ان السكان أو مجموعات محددة من المجتمع تحولت الى أهداف محتملة في حالات مختلفة: الركض، الضحك بصوت عال، التصرف بطريقة غريبة، حمل حقيبة سفر، السير بطريقة غير لائقة، القفز، التحرك بسرعة بين الناس، الانتقال من محطة نقل الى أخرى، أو الانتظار في مكان معين لفترة طويلة.

كل هذه المسلكيات وغيرها عرضة للتعجب أو تثير الشبهات لدى الشرطة "السرية تحديدا" وهي ستكون موضوع التحقيق أو الاستجواب.

هذه الاجراءات قد تكون محط نقاش أو خلافات وخصوصا ان هيكلية بريطانيا تختلف عن هيكل دولة "إسرائيل"، فبريطانيا لا تستطيع ان تقتل الابرياء من جنسيات مختلفة من دون اعتذار أو تحقيق أو تعويض أهل الضحايا. وبريطانيا لا تستطيع ان تبرر سياسة القتل التي تعتمدها "إسرائيل" بذريعة ان القتل هو الاسلوب الوحيد للقضاء على المخاطر واحتواء المخاوف.

بريطانيا دولة مختلفة وهوية عاصمتها يصعب تغييرها أو اقتلاع سكانها أو بناء جدار عنصري يعزل الاحياء عن بعضها ويمنع الناس من التجوال أو تراقب كل من يختلف شكله ولونه ودينه وثقافته. فاللجوء الى هذا النوع من السياسة يعني عمليا وضع معظم أهل المدينة في دائرة الشك والملاحقة.

اعتماد السياسة الاسرائيلية خطوة يتوقع لها ان تفشل في حال قررت حكومة طوني بلير السير فيها. فبريطانيا دولة متعارضة في الجوهر مع "إسرائيل" ومحاولة تقليدها تعني نهاية لتلك الديمقراطية التي تميزت بها في علاقاتها الداخلية وسلوكها المدني مع مختلف المجموعات الأهلية

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1056 - الأربعاء 27 يوليو 2005م الموافق 20 جمادى الآخرة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً