العدد 1056 - الأربعاء 27 يوليو 2005م الموافق 20 جمادى الآخرة 1426هـ

الأصدقاء وفائض الحب

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

الأصدقاء لا يوجدون بفائض الحب، ما يفيض من الحب يكون من نصيب الغرباء، لهم فيه حصة، أو هكذا أرى الأمر، الأصدقاء هم لُباب الحب وزهرته، هم ضوؤه الذي يتجسد من خلاله كل متوارٍ ومندسّ وغير مرئي، هم عينك الداخلية التي تبصر بها ما وراء الأشياء والنوايا، ومن دونهم ستؤدي مقلتاك وظيفتهما ربما كما يجب ولكن ببراعة لا شك أقل بكثير من عين ادّخرتها وتدّخرها ليوم وأزمنة تخونك ؟ وأحيانا تخدعك فيه الرؤية.

يحدث كثيرا أن تعيد النظر في الأمكنة التي مررت بها بعيدا عن الأصدقاء، اذ ربما تبدو بملامح وحضور مريب، ويحدث أن تشعر برغبة في تفقدها وتفقد ريبتها وربما تجهمها ، وبحضور الأصدقاء تبدو لك كأنْ لم تكن هي، بحضور بهي وشفافية أخاذة، وميل لا يرقى اليه جنوح وتهيؤ بأنها تريد مجالستك والتحدث اليك والإعتذار منك على سوء استقبالها لك.

المحرومون من نعمة الأصدقاء، محرومون من خير كثير، والذين ينعمون بالأصدقاء والنبلاء منهم خصوصا محسودون ومرصودون ممن لا يجيدون في الحياة إلا دعوة أصدقائهم الى الانقلاب عليهم جرّاء سلوكات لا شك تدفع حتى الأمكنة الى الانقلاب عليهم والنفور منهم.

أن تنعم بصديق، يعني أن توْدع لديه خزنة أسرارك، والأهم من أسرارك أن تودع نفسك لديه، ليحيطك بالصون والذود، وليقوم مقامك، ليصير لك عينا وأذنا ولسانا وسعيا وتنفسا في حال غيابك أو انشغالك، فيما تقوم أنت في المقام نفسه من دون مراجعة منه أو إذن خطي. ذلك أن ما امتزج من أرواح وما تداخل من حس يجعل الموقف موقف إنابة وتمثيل عن كل طرف ، وليس موقف التماس واستئذان ومكاتبة.

قليلة هي الكتب في تراثنا التي تم وقفها وتخصيصها للأصدقاء والصداقة، ومحاولة رصدهما من حيث هي قيمة كبرى، ومن حيث هي مشروع أول لتماسك وتلاحم اجتماعي يمنح المجتمع ؟ أي مجتمع ؟ حالا من حضور الأواصر وتفعيلها وحالا من الحصانة ضد أي اختراق. ربما يعود ذلك الى أن التنقل الدائم يُوجد أصدقاء، ولكنهم عابرون، وتبدأ صلاحياتهم مع بدء استقرار أحدهم في مكان ما وتنتهي بنهاية علاقته به، وهي نهاية لا تعني النقيض من حيث طبيعة المشاعر والألفة والإحساس بالفقد، بقدر ما ان اصدقاء جددا سيسهمون بشكل أو آخر في استئناف أدوار ووظائف وقيم سابقيهم.

ظلت المجتمعات العربية قديما منتجة لأصناف من الصداقات تبعا للمكان والبيئة، اصدقاء البلاط، الدرس، الحملات العسكرية، وهي جميعا بيئات وأمكنة تنتج نوعا من التحول والإنتقال. لكأنها بهذا المعنى بيئات منتجة لصداقات مؤقتة أو شبه مؤقتة، تتغير وتتبدل بتغير البيئات وظروفها.

هل تصبح الصداقة ضمن التحول المذهل الذي تشهده البشرية اليوم في سبل وطرق حياتها وأنماط عيشها وسهولة ويسر انتقالها واتصالها، هي الأخرى معرضة الى تحول يضعها في خانة المؤقت والعابر، المتغير، المتحرك، المتبدّل؟.

تنشأ اليوم صداقات في الرحلات الجوية والبحرية والبرية، وقليل ونادر منها الذي يتواصل ويراكم مستوياتها وأفقها. تظل صداقات عابرة ومتحولة مثلما هي المشاعر متحولة ومتحركة. وحتى ضمن البيئة والمكان الواحد، لا يمكن التعويل على صداقات قائمة ومفرغة من مضامينها وآفاقها الرحبة والعميقة في آن. صداقات غالبا ما تنتجها الأمكنة أكثر مما تنتجها اختبارات وقراءات وتأملات وتقييمات مشاعر كل طرف من الأطراف.

إيقاع الحياة الراهن اسهم إسهاما كبيرا في تفريغ الظاهر من تلك العلاقة/القيمة، بحيث اصبحت ذات وجوه ومقاصد لا تمت الى جوهرها الحقيقي بصلة.

الصديق ليس لحظة حاضرة، ليس موضعا لاتكاء، ليس متنا لحمل أثقال بعضها من نتاج النفس وبعضها يلقي بها الآخرون للتخلص من وطأتها. الصديق ضمان لما لم يأت من أوقات لا نعلم كنهها وطبيعتها ودرجة ضرواتها، وما تم حجبه في صدر الغيب، هو الذي يكشف عن معادن أصدقائنا لأنهم يقبلون بنا ويدخلون معنا في شراكة روحية ونفسية وهم على استعداد وتهيؤ لتقبّل النقيض مما نحياه من أوقات ملؤها اليسر.

يكسرك الأصدقاء ومن تكنّ لهم الحب، حين يجعلونك عرضة للطعن والغدر، وحين يسهمون ما قدّر لهم الوقت في إرسالك الى جحيم هم يعلمون بأنه لا يليق بك وبتاريخك معهم. كل ما في الأمر انك انتبهت من سكرة الضمير الى صحوته، فرأوا في ذلك نذير شؤم على المقبل من عربدات يريدون اتمامها، وقتل تحت أكثر من مسمى، ولا يترددون حينها في تلغيم الطرق التي تعبرها بمزيد من الآبار المموهة.

أصدقائي الذين ارتكبت حماقاتهم

صلبةٌ كالغموض تجئ بلا أوّل

صادَقَتْكِ الفيالقُ والريحُ في مجدها

والذرى والندى...

كلُّ ماءٍ هباءٌ

اذا ما اعتذرْتِ عن الإغتسال بأعبائه

وحاشية من أساطير

كل الذي لم يمرّ على صبحك

المستجم بليل الدراية

لكِ الطلْعُ والنبعُ والشمعُ

في خلوة فارهة...

تيمّمتُ بالأصدقاء القُدامى

كما تتيمّم أم بأصوات أبنائها المبعدين...

أفاجؤهم واحدا واحدا

بأنيَ كنت على بعد همس وطرْف

يظنون أنيَ في فلَك آخر

لا أرى ما يرون

ولا أتألم حين يُؤذّن للفجر

وهم ساهرون...

اصدقائي القدامى الذين ارتكبت حماقاتهم

بالنيابة عني وعنهم

يدركون انفعالي...

ووقت انشغالي بأعبائهم

تراهم على بعد ضوء من الليل وقت اشتعالي.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 1056 - الأربعاء 27 يوليو 2005م الموافق 20 جمادى الآخرة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً