العدد 1056 - الأربعاء 27 يوليو 2005م الموافق 20 جمادى الآخرة 1426هـ

مختارات جرجي زيدان: كلمات قاربت حاجات المجتمع

أسس وحرر اللبناني جرجي زيدان مجلة الهلال في القاهرة العام ،1992 وجعلها في غضون خمس سنوات واحدة من أهم مطبوعات زمنها الذي مازال ممتدا، وتجاوز عمرها قرنا من الزمن، أسست له ورسخته مقالات زيدان وعدد من كبار المفكرين والمثقفين العرب الذين تقلبت كتاباتهم على صفحاتها.

غير أن ما قدمه زيدان من نشاط فكري وثقافي تجاوز ما قدمه في الهلال. إذ ألف كثيرا من الكتب في مجالات متعددة منها كتابه "فلسفة اللغة العربية" الصادر في العام ،1886 ونقحه لاحقا في العام ،1904 وأصدره في أجزاء بعنوان "تاريخ اللغة العربية"، كما أصدر "تاريخ التمدن الإسلامي" و"تاريخ مصر الحديثة"، و"تاريخ الماسونية والتاريخ العام" وكتب أخرى، إلى جانب مجموعة من الروايات التاريخية، بلغت اثنين وعشرين باكورتها "المملوك الشارد" وجاء في عدادها "غادة كربلاء"، و"فتح الأندلس"، و"الأمين والمأمون"، و"استبداد المماليك"، وهذه بعض من نشاطاته، التي استمرت حتى وفاته في القاهرة بين أوراقه وكتبه العام .1914

نشر زيدان في الهلال كتبه فصولا، قبل أن يجمعها ويصدرها في كتب مستقلة، لكنه نشر فيها مقالات منوعة، تناولت قضايا فكرية وسياسية وثقافية، وأخرى اجتماعية وعلمية وفلسفية، لم تعكس فقط الطبيعة الموسوعية لثقافة زيدان، وإنما عكست تلمس الرجل لاحتياجات مجتمعه وقرائه، ووصله المجتمع والقراء سواء بما هو موجود في التراث المعرفي والثقافي، أو ما هو متداول في المجتمعات المتقدمة، وكان زيدان على صلة عميقة بالاثنين.

ومختارات زيدان، تمثل نموذجا لمقالات نشرها في الهلال، وصدرت في طبعتين سابقا، قبل أن تصدر طبعتها الثالثة في دمشق أخيرا، وفيها أكثر من ثلاثين مقالة تتوزع على موضوعات فكرية وسياسية واجتماعية وعلمية وفلسفية منها مقالاته "حقيقة الإنسان وراء ثلاثة استار"، و"الفراغ مفسدة"، و"كيف تتكون الأخلاق"، و"ما هو الاستقلال الحقيقي"، و"آفات التمدن في الهيئة الاجتماعية الشرقية".

ولعل أبرز ما يمكن التوقف عنده في الكتاب مقالته الأولى "حاجتنا الكبرى"، والتي لحظ فيها، أن حاجة العرب الكبرى هي "الأخلاق الراقية"، والأساس الأول فيها "الصدق" بما يتضمنه من "الشجاعة الأدبية" والقدرة على "الاعتراف بالخطأ"، و"الأمانة والوفاء" و"الشعور بالواجب" و"التعويل على الحقيقة"، ثم "المبادر إلى العمل"، ثم لاحظ أن الأساس الثاني في حاجتنا الكبرى، يتمثل في "الثبات" وفيه ثلاث صفات أساسية "متانة الخلق"، و"الاعتماد على النفي" و"سعة الصدر". ص23

وتوقف زيدان في مقالة أخرى بعنوان "الأمة نسيج الأمهات" عند دور المرأة في المجتمع، فلحظ في مقالته "أن الأمة نسيج الأمهات فعلينا تربية البنات"، منطلقا من أن النساء "قابضات على زمام العمران، فإما أن يرفعنه إلى أوج السعادة، وإما أن يهبطن به إلى حضيض الذل"، مضيفا، أن المرأة "قوام المجتمع"، ما يتطلب اهتماما أوسع بها من أجل تحسين إمكاناتها وقدراتها، ولاسيما من خلال تعليمها الذي هو أكثر إلحاحا عند زيدان من تعليم الرجل، وان كان يرى "أن يكون كلاهما متعلما راقيا". ص 124

وعالج زيدان في مختاراته موضوع الحرب، فتساءل عما إذا كانت الحرب ستختفي من الأرض، واعتبر في مقدمة مقالته، أن البشر "لايزالون بعيدين عن المدنية الصحيحة، مادام فيهم الميل إلى الحرب، لأنها من بقايا الهمجية، تمثل الإنسان في أفظع أحواله الوحشية"، ولأن رأي زيدان على هذا النحو من الوضوح، فقد ذهب في مقالته إلى شرح "أصل الحرب" وتطور نظرة الإنسان إليها، وأبرز "أقوال العظماء في الحرب" مبرزا في ذلك الطابع السلبي للحرب ومنها قول مونتسكيو "إن خراب أوروبا إنما يكون على أيدي قوادها في الحروب"، وهو يجمل نظرته للحرب من خلال خسائرها بالقول، إن خسائر الحروب لا يمكن تقديرها، وهي لا تقتصر على الأنفس والأموال، فهناك خسائر أدبية واجتماعية لا تقل عن تلك". ص 243

زيدان في مختاراته بعد نحو قرن من كتابتها، يبدو وكأنه يعالج موضوعات وقضايا يومنا الحالي. قضايا مازالت بين احتياجاتنا الأساسية والملحة، والأمر في هذا لا يقتصر على "حاجتنا الكبرى" بما تتطلبه من قيم وسلوكيات، وإنما يتجاوزه إلى واقع المرأة في حياتنا، التي مازالت النظرة إليها باعتبارها صاحبة المكانة الدنيا في المجتمع، على رغم ما حققه التقدم الإنساني على طريق المساواة بين الجنسين وفي سيل تمكين المرأة التي رأى زيدان عن حق أنها "قوام المجتمع"، وهو في نظرته الإنسانية ذهب إلى الأعمق عندما عارض الحرب بفعل ما تتركه من خسائر وآلام للبشر، وهي نزعة الغالبية البشرية في عالم اليوم. زيدان الذي توفي قبل نحو قرن مضى، كأنه مازال يعيش بيننا، وكلماته تعالج بعضا من شئوننا





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً