سألوا ذات مرة الشاعر الفلسطيني سميح القاسم عن سر اتكائه على عكاز، وقال له محاوره: أراك تتكئ على عكاز. هل هو كي تستوي مشيتك، أم كي تهش بها على قطعان القصائد التي تعبر فيافي الروح، أم كي تلوح بها في صيغة احتجاج ووعيد... أم ماذا؟
فرد القاسم: هي ندبة حوادث الطرق. أما أسراب القصائد وغزالاتها فتتبعني حيث ذهبت، لأنني أتبعها حيث ذهبت، وثمة قطعان بشرية، لأسفي الشديد، أجدر بالعصا والعصا لمن عصا.
فقال له محاوره: ولكن، إذا كانت القصيدة هي العاصية؟
فأجاب القاسم: كعادتي، قصيدتي عصمتها في يدها، وكنت، كما قد تذكر، قبل عقد من الزمن أصدرت بيانا "من سميح القاسم المواطن إلى سميح القاسم الشاعر" وأعلنت فيه أنني لن أعود إلى الشعر، ودخلت معركة طاحنة مع الشاعر الذي سبب لي القرحة والخيبة تلو الخيبة، ولكن بعد شهور، ربما، كانت قصيدة جديدة، وسألت لماذا لا تلتزم ببيانك، قلت لأن القصيدة أعادتني إلى بيت طاعتها، فعصمتها في يدها!
تذكرت هذا الحوار مع الشاعر سميح القاسم وإجاباته على السؤالين، عندما أعلنت ست جمعيات سياسية إغلاق أبوابها ثلاثة أيام احتجاجا على إقرار قانون الجمعيات في "غرفتي" مجلس الشورى والنواب، وانتقال ملفاتها "أوتوماتيكلي" من وزارة الشئون الاجتماعية إلى وزارة العدل، وكيف ان هذه الجمعيات كانت في الأساس "تتكئ" على عكاز "التوافق بين الحكم وبينها" لا على عكاز "المرسوم بقانون رقم "21" لسنة 1989 الخاص بالجمعيات، الذي لا يجيز لها العمل السياسي" كي تسوي مشيتها، واتخذت قرارا تلوح به في صيغة احتجاج حضاري، غير انه ليس كافيا لدى الكثير من المراقبين للشأن المحلي، لأن هذه الجمعيات كسرت "الفاتحة" مساء السبت، كما يفعل المسلمون على أرواح المتوفين الذين ينتقلون إلى رحمة الله، ولا نعرف، إن كانت هذه العادة "الحدادية"، ستتبعها أربعينية على المتوفى أم لا، إذ يقال إنه في أربعينية المتوفى ترفرف روحه الطاهرة وتحلق على الموقع الذي كانت فيه لترى تفاعل الأبناء والأهل والأصدقاء وما يقدمون لها، ومن ثم تبدأ الروح تأخذ بالارتياح.
تنتسب الجمعيات الست إلى قوى سياسية فاعلة في المجتمع البحريني وإلى جيل مؤسس من الحركة السياسية بتلاوينها المختلفة، وكلها كانت "باطنية" تعمل تحت الأرض، وكانت للانفتاح السياسي تجلياته في تحول هذه التنظيمات من العمل السري إلى العمل العلني، وارتضت به وإن كان على عكاز "مرسوم بقانون 21"، أو مرسوم بقانون "النوايا الحسنة" الذي تغلغل في أعمق أعماق السياسيين، فخرجت هذه التنظيمات من الظلمات إلى النور، واشتغلت بالسياسة أمام بصر وسمع الحكومة ضمن توافق مقبول في البداية مذموم في مسك الختام، فبات البيان القاسمي: "من سميح القاسم المواطن إلى سميح القاسم الشاعر"، الذي أعلن فيه انه لن يعود إلى "الشعر" الذي سبب له "القرحة والخيبة تلو الخيبة" يعاد اجتراره على التنظيمات السياسية، ويبدو انها لن تعود للعمل السري تماشيا مع لغة العصر.
وعلى رغم إعلان "أبوأمل بوضع الجبهة الشعبية في الثلاجة" أو بتجميد غير معلن لنشاطات جبهة التحرير الوطني البحرانية، أو الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين، أو التيار الشيعي السياسي المنضوي في "جمعية الوفاق الوطني الإسلامية"، بتلاوينه المختلفة: أحرار، دعوة إلى ما هو موجود على الساحة. غير أن السؤال المهم: هل تعلن هذه التنظيمات السياسية "بعد الثلاثة أيام للحداد" أو في أربعينيتها، وبشكل علني تشكيل أحزابها العلنية وتسمية الأشياء بمسمياتها، فتخرج الجبهة الشعبية "من ثلاجتها" ويتم تسييحها في صيف البحرين الحار للعمل العلني وليس السري، وكذا "التحريريتين" - البحرانية والإسلامية - وكذلك "الوفاق"، بتوافق أو عدم توافق مع الحكومة وقوانينها، تماما كما فعل مركز البحرين لحقوق الانسان، إذ نشاطه متواصل على رغم حله، أو كما تفعل لجنة العاطلين عن العمل.
أعتقد انه آن الأوان لأن تتخذ هذه التنظيمات موقفا شجاعا تماشيا مع مستحقات المملكة الدستورية والديمقراطية العريقة، التي يتم فيها عادة التداول السلمي للسلطة عن طريق صناديق الاقتراع، ومن خلال منافسة هذه الأحزاب والجماعات في الانتخابات التشريعية، لا على طريقة ما يجري الآن، إذ الغالبية خذلت من كثرة التراجعات عن الحريات العامة، وكثرة الاحتقانات والأزمات السياسية.
تصوروا ما يجري في وطننا الطيب ثم تساءلوا: لماذا يا وطني الطيب... لماذا؟ فليس بعيدا أن يخرج علينا متربصون ليشمتوا بنا قائلين: "ها، هل صدقتم أن عندكم ديمقراطية؟! الآن تذوقوا محاسن "الديمقراطية العريقة"! هل رأيتم أنيابها، ليس في أول اختبار بل في اختباراتها، وكم اختبار ستدخلونه... ألم يحذركم الأولون من أن المؤمن لا يلدغ من جحر ألفي مرة؟!".
لماذا يا وطني الطيب لم تقبل بهذا ولا بذاك، ولم تسمع هذا ولا ذاك، كلهم يحبونك على طريقتهم، فإبراهيم شريف يحبك مثل حسن مدن، والشيخ علي سلمان وكذا الشيخ محمد علي المحفوظ؛ وهناك نخب متفاوتة الرؤى والمفاهيم تعشقك حتى الموت: واحدة منها تناضل تحت قبة البرلمان تخاف عليك من خدش الحياء، وآخر قابعة خارجه تبعث بريدها اليومي إليك للإصلاح وتصويب الاعوجاجات، وثالثة تناديك من الأزقة الفقيرة... إذا لم تستطع يا وطني الطيب أن تسمعهم جميعا دفعة واحدة فاستمع لأحدهم، فلا يوجد من بينهم من يكرهك... يا وطني الطيب هناك مؤسسات المجتمع المدني تناشدك التأسيس لـ "دولة المؤسسات والقانون" بطريقتها الصحيحة، كما تريد وتطمح لدولة ديمقراطية عريقة... فقط لا تدع التنظيمات السياسية لانتهاج العمل غير المشروع، فهذا العمل سيكون وبالا على الجميع وليس في صالح أحد
العدد 1055 - الثلثاء 26 يوليو 2005م الموافق 19 جمادى الآخرة 1426هـ