العدد 1054 - الإثنين 25 يوليو 2005م الموافق 18 جمادى الآخرة 1426هـ

الديمقراطية تغيير متدرج

عثمان الماجد comments [at] alwasatnews.com

-

الديمقراطية ما هي إلا خيار إنساني توافقي متسق مع طبيعة البشر المغايرة لطبائع مخلوقات الله الأخرى، التي تحتكم إلى العقل والمنطق لحل خلافاتها واختلافاتها، وتوقد ضوءا بمسافة النفق المجهول الذي تلجه الأجيال المتعاقبة عبر تخطيط ودرس يوائمان بين معطيات الواقع مع استشرافات المستقبل، يمكنها من امتلاك وخلق ما يضيف إلى آلياتها بحسب تجدد الحياة وتداخل قيم أجيالها واكتساب قيم جديدة. وقد أجمعت أمم الدنيا على فاعليتها في تحقيق استقرار سياسي واجب يفسح المجال ويسخر إمكانات الأمم والبلدان من أجل البناء والتنمية، وحل ما يتصل بالقضايا والمشكلات العالقة من تركة الآباء والأجداد على قاعدة من التوافق تمليها ضرورة العيش المشترك والوطن الواحد. فالإيمان بالديمقراطية فكرة على النقيض الحاد من الفكرة الانقلابية، والعمل على إرسائها وترسيخها، ضمن إرادة المجموع، أداة للتغيير المتدرج والنسبي، وفضاء رحب مفتوح الأفق، يستوعب المختلفين، ويعالج متبنيات أفكار ورؤى فرقه وأحزابه بالقدر المتوافر لديها من المرونة والديناميكية، ويسفر عن ولادة حكومات متوافق عليها تعمل وفق مبدأ التداول السلمي للسلطة، فهو المبتغى الأسمى الذي يكلل مسعى الشعوب في خلق أطر سياسية صحيحة، والسير وفق منهجيتها بثقة وطمأنينة من أجل البناء وتفكيك الاستبداد أينما غاص متخفيا، أو بدا ظاهرا في البنى السياسية والاقتصادية، وما يمكن أن يفرزه ذلك من ارتجاعات كارثية على الصعيد الاجتماعي.

ذلك أن الديمقراطية من حيث هي تسليم بالتدرجية، إنما هي القطيعة مع الفكرة الراديكالية وتحمل بذورا جنينية لعمل وطني تذوب فيه النرجسيات والعصبيات والعناد السياسي المعضود بالفزعة العصبوية القبائلية باعتبارهما طلعا اجتماعيا رعته النرجسية وتضخم بالأنا، حين تكرس سلوكا في بيئة تملكه للحقيقة المطلقة لاغيا من قاموس تعاملاته العلاقة بالآخر، حتى أضحى، العناد، وقودا محركا للكثير من الأنشطة التي، وان بدت ظاهرا احتجاجاتها ومسيراتها على أنها ممارسة ديمقراطية وتعبير حقيقي عن مطالب مشروعة، فإنها إلى جانب ذلك تحمل غير قليل من تعبير مثالي عن ذلك الذي أسميناه عنادا سياسيا. والعناد السياسي، على المدى البعيد، يولد احتقانا يقود، لا محالة، إلى انفجار، من واجب السلطة التنفيذية ولصالح المشروع الإصلاحي، التخفف والمسارعة لتجنب ذلك بطرح ملفات البطالة، التمييز، الفساد الإداري وغيرها من الملفات التي باتت تؤرق المجتمع وتعوق تطوره، تطرحها على طاولة البحث والنقاش بإشراك الجمعيات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني لانتشال المجتمع من فوضى اللا استقرار.

العمل الوطني يحتاج، من بين أشياء كثيرة ملحة، إلى ذكاء للكشف عن المشتركات وعقد تحالفات وإبرام مصالحات على أوسع نطاق يضع في اعتباره أن الوطن والمواطن فوق كل حسبة طائفية أو حزبية، إذ يتوقف مسار ومستقبل العمل الوطني على اختيار الحليف الصحيح، في المنعطف التاريخي الصحيح، وفي ضوء ذلك لا يجوز، في اعتقادي، أن أتحالف مع من هو على الضد من معتقدي ورؤيتي الشمولية للحياة في أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية إلا في المواقف التاريخية التي تستوجب القضاء على عدو مشترك وهذا ليس ما نحن بصدده، لأن العدو لا يوجد بيننا أصلا، فكلنا شركاء في الوطن الواحد، وأية محاولة لإقصاء مكون من مكونات الطيف المجتمعي هي خطوة باتجاه الغلط المكلف جدا.

إن المشهد السياسي في المملكة محتقن ولا تشي تفاعلاته بخلق حال من الاطمئنان والاستقرار، فضلا عن أن كرة الثلج الطائفية آخذة في الكبر في ضوء سرعة تدحرجاتها من علياء سكونها في كنف سماحة الآباء والأجداد إلى عبث الأبناء واستهتارهم بالقيم الوطنية وتغليب الخاص على العام، ما يضفي على المشهد السياسي تورما اجتماعيا مرتبطا علاجه بتخفيف حال الاحتقان السياسي. لماذا؟ لأن هناك قناعة على أن المسيرات والمظاهرات الاحتجاجية أو المطلبية هي أدوات ديمقراطية تستمد قوة منطقها من حرية التعبير التي يكفلها الدستور للمواطنين، في الوقت الذي يشاع، خارج منطق الدستور، أن المسيرات والمظاهرات هي ظواهر تحشيدية تستغل تراخي السلطات الأمنية لتصب في النهاية في خانة الإضرار بالتجربة الديمقراطية وإعاقة المسيرة.

وفي ظني أن وجهتي النظر تنطويان على الصح ونقيضه بالقدر والمعيار نفسه، ولكن ما يرجح كفة الصح في وجهة النظر الأولى هو مرجعيتها الدستورية فيما يضعف وجهة النظر الأخرى هو لا دستوريتها، ولكن قوة منطقها تكمن في الخوف من حرف التجربة الديمقراطية عن مسارها الارتقائي والسقوط في أتون المحرقة الطائفية التي تطل برأسها بين الفينة والأخرى، مرة بسبب مسرحية "حب في الفلوجة"، الذي صار اسمها حينئذ شيئا من اختبارات ملء الفراغ "... في الفلوجة"، أتاحت للخبثاء تناسي كلمة "حب" السامية واستبدالها بما رحبت به المخيلة الشعبية من مفردات، وتارة أخرى بسبب كاريكاتير اتفقت غالبية الآراء على سلامة تعبيراته السياسية وسموها عن الصغائر وخلوها من المس بالرموز الدينية أو التجريح، إلا إذا ساءت النوايا عند قراءة المقاصد، وأجمعت على وطنية الفنان خالد الهاشمي الذي لا كل يوما ولا مل من تسليط ضياء ألوانه على معاناة المواطن وضيق الوطن بمشكلاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والذي هو بالمناسبة، من بيت بحريني سمح كريم خرج كفاءات وقادة لمؤسسات تطوعية ومواهب فنية إبداعية معتبرة كلها خدمت وتخدم الوطن، وتسعى لخير المواطن، والإشارة هنا لا يقصد منها المقارنة مع أي كان، ولكن لأن البيئة الاجتماعية الحاضنة للإنسان من مقتضيات إصدار الحكم على إنسانية ذلك الإنسان، أوردنا شيئا مما نعرف عن تلك البيئة التي فيها نما الرسام المعروف إنسانا وفنانا، والمقام لا يسع لنضيف.

ثم ألم يحن وقت تغيير لغة الخطاب السياسي المتشحة بمفردات حقبة التسعينات الموجعة، التي تشكل يقينياته الاجتماعية والسياسية، أثقال تجر المجتمع جرا إلى الوراء، فإذا كان واجبا الإقرار بيقينيات عقيدية فإن ذلك لا ينبغي أن ينسحب على المجتمع وتطوره السياسي الذي أحدث فيه مشروع جلالة الملك تبدلا نوعيا يتيح للمعارضة استخدام المؤسسات الدستورية للتعبير عن المواقف المعارضة كما هو حال بعض الكتل النيابية في المجلس الحالي، وان لم تصل بعد، ككتل، إلى مرحلة الرشد السياسي فيما يتعلق بعقد التحالفات التي تسمو على الشخصي والذاتي لترسو عند العام والوطني.

كما أنه يسمح، وفق آلية ديمقراطية، بإدخال التعديلات الدستورية المطلوبة شريطة أن تحظى بغالبية، ولا يجوز أن نلقي بآثار ضعفنا في عدم إيصال من يمثلونا تمثيلا حقيقيا إلى البرلمان على التجربة ذاتها. صحيح أن المعارضة، وخصوصا التي قاطعت الانتخابات تنشط... وتنجح في إلهاب الشارع بمظاهراتها، كما هي تستطيع ذلك حتى في حال شاركت في الانتخابات، وعندئذ سيكون، في اعتقادي، لها ما يبررها، إلا أنها والحال هذه، تظل تحاكي هاجسا استراتيجيا عبر خطابها المتزمت الذي تجمد عند المطالبة بالتعديلات الدستورية، ولكنها لا تمس هما معاشا ولا تعبر عما هو وجع معيشي سيستمر ما بقي العناد سلوكا يدير متجهات القرار السياسي.

لكن، أليس من الملاحظ أم أنه يبدو لي أنا فقط، أن وقع المطالبة بالتعديلات الدستورية أخذ يضعف حين اختلط مع كثرة المسيرات والتظاهرات ذات العناوين المختلفة؟ بل يكاد يتماهى مع مظاهرات تضج بالمختلف عليه وطنيا؟ أقول ذلك لا مشككا في وطنية الجمعيات المقاطعة للانتخابات، التي يشهد لمساهماتها الوطنية القاصي والداني، ولكنني أبدي قلقا ولأذكر، أيضا، أن الخطاب المضاد لخطابها قادر على ربط هذا بذاك وتفقد المطالبة بالتعديلات الدستورية بعض بريقها الوطني، بالضبط مثل ما هو، الآن، يتأسس على خلفية التضرع! للجمعيات المقاطعة بالمشاركة في الانتخابات، بأن المعارضة الوطنية محصورة في دائرة الجمعيات السياسية الأربع

العدد 1054 - الإثنين 25 يوليو 2005م الموافق 18 جمادى الآخرة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً