منذ أن ظهرت أزمة العراق في العام 2001 ثم اشتدت حدتها في العامين التاليين ونشأت خصومة أدت إلى قطيعة بعض الوقت بين الرئيس الأميركي جورج بوش والمستشار الألماني غيرهارد شرودر، لم تعد العلاقات بين الولايات المتحدة وألمانيا إلى سابق عهدها. فقد رفضت ألمانيا قبول الحجج الأميركية والبريطانية التي كانت تزعم أن العراق يمتلك أسلحة الدمار الشامل، ورفضت لاحقا الانضمام للدول القليلة التي غزت العراق تحت قيادة الدولتين. ثم وجدت حكومة شرودر أنه ليس في مصلحتها الاستمرار في القطيعة مع إدارة الصقور في واشنطن، وقررت لفت انتباه هذه الإدارة من خلال مساهمات من شأنها خفض الأعباء عن القوات الأميركية فزادت عدد قواتها في أفغانستان وأقرت برنامجا لتدريب عناصر تابعة لشرطة وجيش العراق.
وكان شرودر قد حسم المنافسة لصالحه في الانتخابات التشريعية العامة التي جرت في سبتمبر/ أيلول 2002 بعد أن استغل غضب الشارع الألماني من السياسة العسكرية الأميركية والخوف من تورط جنود ألمان في حرب ليس لألمانيا فيها ناقة ولا جمل. وكان هذا هو الدافع الوحيد الذي جعل الناخبين الألمان ينقذون حكومة شرودر الائتلافية التي تجمع بين الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر الصغير من سقوط مؤكد. ففي ذلك الوقت لم يفصح منافسه على المستشارية رئيس حكومة بافاريا إدموند شتويبر عن موقف صريح حيال حرب العراق لكن شريكته في الاتحاد المسيحي أنجيلا ميركل التي تنحدر من ألمانيا الشرقية السابقة، أيدت تدخل واشنطن في العراق وانتقدت موقف حكومة شرودر المعارض للحرب.
فيما يتعلق بسياسة المعارضة الألمانية تجاه الشرق الأوسط يستبعد المراقبون حدوث تغيير جوهري على ما يسمى ثوابت السياسة الخارجية الألمانية، فبرلين تؤيد عملية السلام ورحبت بعزم "إسرائيل" الانسحاب من غزة. وستظل ألمانيا تقف إلى جانب "إسرائيل" كما فعلت كل الحكومات التي تعاقبت على السلطة منذ تأسيس ألمانيا الاتحادية العام .1949 ومنذ سنوات تهتم واشنطن بالضيوف الألمان الذين يزورونها إذا كانوا ينتمون للمعسكر المحافظ. وحين زار شرودر واشنطن في الشهر الماضي والتقى بوش رأى كثير من المحللين أنه قد يكون آخر لقاء بين رجلين لم يتفقا منذ أول لقاء جمع بينهما في العام .1999
ميركل أفضلية اميركية
ومنذ أن أعلن شرودر دعوته إجراء انتخابات عامة مبكرة من المنتظر أن تجري في الثامن عشر من سبتمبر المقبل، يجري الحديث في برلين وواشنطن عن احتمال تغيير العلاقات الأميركية الألمانية في حال خسارة شرودر المنافسة على المستشارية ومجيء أنجيلا ميركل لتكون أول امرأة تشغل هذا المنصب. ولا يشك اثنان في برلين أن العم سام يريد أن تفوز ميركل بالمستشارية، وترى واشنطن أن هذا شرط للبدء في تجاوز كومة الخلافات التي تجمعت خلال سنوات حكم الاشتراكيين والخضر. غير أن ما لا يأخذه الأميركان في حساباتهم ما إذا كان بوسع زعيمة الاتحاد المسيحي الديمقراطي المعارض، والتي كانت البنت المدللة للمستشار السابق هيلموت كول، قادرة فعلا على الارتماء في حضن واشنطن والتحالف معها في خطط وسياسات تثير الريبة في نفوس الشعب الألماني. ذلك أن التجربة السيئة لحرب العراق أحدثت تغييرا في موقف غالبية المواطنين الألمان حيال الولايات المتحدة. وهم يكنون العداء للرئيس بوش على رغم أن غالبية الألمان يعترفون حتى اليوم بفضل الولايات المتحدة في وضع نهاية لعهد النازيين والقضاء على هتلر ثم تأسيس جمهورية ديمقراطية على ركام الحرب العالمية الثانية، نجحت وبرزت فيها معجزة اقتصادية أثارت غيرة دول استعمرت ألمانيا مثل بريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفياتي.
البرلينيون لم يستقبلوا بوش
وإلى أن تسلم بوش السلطة، كان يجري استقبال الرؤساء الأميركيين استقبال الفاتحين، وخصوصا بوش الأب، بسبب دوره في تحقيق الوحدة الألمانية العام .1990 وحين زار ابنه حاكم تكساس السابق برلين لأول مرة بعد توليه السلطة، تولى عشرة آلاف شرطي وعميل أمن حراسته. ولأول مرة ظل البرلينيون في بيوتهم ولم ينزلوا إلى الشارع لتحية الضيف الأميركي غير المرغوب به. وتحولت مدينة ماينتس في فبراير / شباط الماضي إلى حصن أمني حين توقف فيها بوش الابن ساعات قليلة للاجتماع مع شرودر.
وليس سرا أن واشنطن لا تتعاطف مع حكومة شرودر، وقد وجهت لها صفعة قوية قبل أيام حين كشفت عن معارضتها لتوسيع العضوية في مجلس الأمن الدولي على رغم الطموحات الكبيرة لألمانيا بالحصول على مقعد دائم في نادي الكبار بعد تحقيق إصلاح مؤسسات الأمم المتحدة. واضطرت برلين إلى التنازل عن حقها بالمطالبة بحق النقض "الفيتو" مقابل الحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن.
من الأسهل أن يعلق المستشار شرودر على سير العلاقات الألمانية الروسية مقارنة مع تعليقه على سير علاقات بلاده مع أميركا. حتى منافسته المحافظة التي توصف بـ "ثاتشر الألمانية"، أصبحت منذ وقت قصير تفكر بكل كلمة تنطق بها في سياق الحديث عن سياستها تجاه القوة العظمى. وهذا موقف براغماتي لميركل التي تعي تماما تبعات كل ما تقوله عن سياستها تجاه الولايات المتحدة. في تصريحات نشرت الأسبوع الماضي أعلنت ميركل أنها لن ترسل جنودا إلى العراق، وكشفت أن الأولوية لديها تدعيم الاتحاد الأوروبي. وقالت إنه لا ينبغي نشر الشعور أن الاتحاد الأوروبي يشكل كتلة منافسة للولايات المتحدة، وإنه من مصلحة القوة العظمى أن يصبح الاتحاد الأوروبي كتلة قادرة على التصرف فيما الشراكة عبر الأطلسية - بنظر ميركل - تظل الركيزة الاستراتيجية للأمن والحرية في القارة الأوروبية. ثم صححت ميركل تصريحاتها حين قالت: "سيكشف موقف النزاع التالي عن قدرة تماسك هذه الشراكة".
وعند غزو العراق اتهمت الزعيمة المحافظة حكومة شرودر بالإساءة للعلاقات الألمانية الأميركية وتبنت موقفا مناهضا تماما لموقف شرودر وغالبية الألمان تجاه حرب العراق. وكتبت ميركل مقالا ناقدا لموقف شرودر نشرته "واشنطن بوست"، نددت فيه بالطريق المستقل الذي اختاره المستشار الاشتراكي، وقالت إن هذا الموقف لا يعبر عن وجهة نظر ألمانيا برمتها. وكان وقع المقال سلبيا تماما داخل ألمانيا. لكن أميركا المحافظة شكرت ميركل على موقفها، فاستقبلها نائب الرئيس الأميركي ريتشارد تشيني نهاية فبراير 2003 قبل وقت قصير من بدء غزو العراق.
وفي وقت ساد العلاقات بين واشنطن وبرلين توتر شديد، وصف المستشار السياسي للإدارة الأميركية ريتشارد بيرلي زعيمة المعارضة المحافظة بأنها وفية للعلاقات الأطلسية. وبعد عامين على توتر العلاقات بين واشنطن وبرلين يرى بعض المراقبين هنا "في برلين" أن حكومة محافظة في ألمانيا ستكون صلتها أفضل مع إدارة بوش خصوصا أن الخلاف الشخصي بين بوش وشرودر هيمن على التوتر المستمر، وليس اختلاف الآراء حول القضايا الثنائية والدولية.
ويقول جوليان كناب من مؤسسة "أسبن" الأميركية في برلين إن الخلاف بن الزعيمين لم يكن حول ما إذا سترسل ألمانيا جنودها إلى العراق أم لا، وإنما نشأ في واشنطن شعور أن شرودر استغل أزمة العراق ليحتفظ بالسلطة، وأخذ بوش هذا الأمر بصورة شخصية جدا.
الفرع الألماني للحزب الجمهوري الأميركي يأمل من جانبه فوز ميركل بالمستشارية أيضا، وقال المتحدث باسم الفرع إيريك شتال: "نأمل في التغيير ونرى أن مجيء ميركل إلى السلطة سينهي توتر العلاقات بين واشنطن وبرلين". لكن وجود فرع لحزب بوش في ألمانيا لا يعكس حقيقة أن سمعة القوة العظمى تراجعت كثيرا في أوساط الألمان، إذ قبل خمس سنوات كانت سمعة الولايات المتحدة إيجابية عند 78 في المئة من الألمان. بينما كشفت عملية استطلاع جرت أخيرا أن 41 في المئة فقط من الألمان يعبرون إيجابيا عن الولايات المتحدة.
ويرى البروفسور فرنر فايدنفيلد الذي شغل منصب منسق العلاقات الألمانية الأميركية في عهد المستشار السابق كول: "لن يمكن حل كل المشكلات العالقة بين البلدين بسرعة في ظل حكومة تترأسها أنجيلا ميركل، ولكن ستختفي الغيوم السوداء. ثم أن ميركل زعيمة الاتحاد المسيحي الديمقراطي المحافظ ولم يسبق أن شب خلاف بين رئيس أميركي وأحد زعماء هذا الحزب
العدد 1054 - الإثنين 25 يوليو 2005م الموافق 18 جمادى الآخرة 1426هـ