تستحضرني كثيرا صورة الوزير المثقف وما للثقافة من دور كبير في اختصار الازمنة والامكنة. وليس غريبا عندما يكون هتلر بالغ الحساسية من لفظة "ثقافة" فهو القائل: كلما سمعت لفظة ثقافة تحسست مسدسي.
وانا اقرأ تاريخ الوزراء في العالم العربي اصدم بوزير لبناني يسرق البقر من الفلاحين ووزير عربي آخر يتاجر في البقوليات على حساب الناس وثالث يبيع لحم الحمير على الفقراء أو يتاجر بالدجاج الفاسد. نستيقظ كل صباح في عالمنا العربي لنفاجأ بأساليب مختلفة من متاجرة الوزراء. وزير يبيع "البربير" وآخر يدس عماله الآسيويين لبيع الهوامير أو الاسماك الأخرى وآخر بنظارته السوداء يقتنص المناقصات. ما بين كل ذلك لا يضيع الوزير الوطني ففي تاريخنا البحريني والعربي صور - وان كانوا قلة - لوزراء زانوا وزاراتهم ولم تزنهم، ذلك لانهم كانوا يرتلون آيات الثقافة في محراب الفكر عند انطلاقهم لميادين السياسة. يقول ديجول: "ان المدرسة الحقيقية للقيادة هي الثقافة العامة، بها يعمل العقل بانتظام، ويميز الجوهري من الثانوي، وان القادة العظام الذين خلدهم التاريخ كانوا يتذوقون التراث الفكري، فوراء انتصارات الاسكندر نجد دائما ارسطوطاليس".
وهنا كلما تأملت هذه العبارة ينقدح في ذهني صورة المثقف الوزير غازي القصيبي... ظاهرة ثقافية دبلوماسية قليلة التحقق ونادرة الوجود في عالم جميل ضاعت فيه الثقافة وبرزت فيه السياسة. سؤال مهم: من يجمل الآخر الثقافة أم الوزارة... كثير من الوزراء تركوا مقاعدهم فنسوا وتلاشى ذكرهم ولفظتهم الذاكرة الرسمية والشعبية ووزراء آخرون بقوا ترسانة معرفية يدورون بثقافتهم يعطرون الازمنة والأمكنة... لماذا تنفعل الذاكرة بمحمد بن عيسى وبغازي القصيبي وغسان سلامة وطارق متري؟ ذلك لانهم مثقفون انشغلوا بالمعرفة قبل المنصب وان كان حريريا أو مذهبا أو معطرا. الثقافة كما يقول ميتيو أرنولد: هي عملية تراق نحو الكمال الانساني، تتم بتمثل افضل الافكار التي عرفها العالم.
نقرأ حرية القصيبي بـ "شقة الحرية" ونفهم فيه الإدارة بـ "حياة في الإدارة". أليس هو "صوت من الخليج"؟ وقامته المعرفية زاحمت كبار مفكري العرب والغرب واثبت ان الانسان الخليجي ليس نفطا وعمارة وعقارا بل هو ثقافة وشعر ووطنية أيضا... لم يتملص من انتمائه العربي وقضاياه وحتى اسلامه... في كتبه انتقد سياسة السادات واتاتورك في انفعالهما بالغرب فرفض زيارة قبر اتاتورك وانتقد السادات في اعجابه لحركة وضع الاقدام على الطاولة كما يفعل بعض الاميركيين في استقبال ضيوفهم، وجمال لندن لم ينسه "آيات الاخرس" أو "ناجي العلي" ودافع عن بلاده ضد المتعصبين من الغرب فكتب "امريكا والسعودية" وامتدح التحولات السياسية والانفتاح السياسي في البحرين في كتابه الجميل "امريكا والسعودية" "ص 134". غازي قرأ السيرة النبوية وتمعن في بعض الاحاديث النبوية وقدم رؤى جديدة ذات بعد غير تقليدي في كتابه "ثورة في السنة النبوية" ولا غريب فهو يدعو إلى تفهم الغرب والاستفادة من عبقرية التنظيم في كتابه "التنمية الاسئلة الكبرى" و"الغزو الثقافي". هذا ولم اكتب لكم عن شعره الساحر فهو يجمع بين نكهة سلاسة نزار قباني وحكمة المتنبي فأصبح ذا نكهة خاصة. آخر ما قرأت له من شعر قصيدة "انشودة طفل" "التوزيع" وعن "الخمسين... في الخمسين... قالا:" صحيفة الجزيرة السعودية بمديرها النشط في البحرين جمال الياقوت دائما ما ينعشان الذاكرة بصور جميلة لغازي القصيبي وآخر تحريضاته على الثقافة. يقول غازي في احد كتبه: اني مقتنع "بأن الثقافة قبل السياسة". السياسي غير المثقف يهلك البلاد ويميت العباد اين كان موقعه. دعونا نبحث عن الوزير المثقف والسياسي المثقف قبل كل شيء
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 1054 - الإثنين 25 يوليو 2005م الموافق 18 جمادى الآخرة 1426هـ