قنابل مسيلة للدموع تطلق على منزل، هجوم على الشرطة بسلاح ابيض، اختطاف باص للهرب ومطاردة يتخللها اطلاق نار. المفردات اللازمة لوصف مشهد سينمائي من افلام هوليوود. لكن هذا الحادث يتعدى هذا التشبيه ليقرع جرس انذار خطير.
قرأت الخبر في أربع صحف والتفاصيل المشتركة في رواية الاهالي والرواية الرسمية تقود الى الاستنتاج نفسه: عنف يتصاعد ويتخذ أشكالا مستجدة.
لقد شكا الاهالي من عنف الشرطة التي اعترفت بدورها باطلاق قنابل مسيلة للدموع باعتبارها أقل الوسائل ضررا. وزادت بأن اصحاب المنزل اعتادوا مقاومة اعتقال ابنهم المطلوب والتعدي على رجال الشرطة في مرات سابقة. لكن التدقيق في التفاصيل يدفع بالنهاية الى التساؤل عما اذا كانت هناك وسائل أخرى غير القنابل المسيلة للدموع لانفاذ القانون.
بالنسبة إلى الشرطة يتعلق الامر دوما بالوضع في الميدان وحسن التقدير والتصرف. ومن الواضح ان الشرطة لديها تقييمها الخاص بشأن المتهم، وهو تقييم يجعله من النوع الخطير. لكن مدلولات الحادث نفسها تدفع بنا الى ما هو أبعد من ذلك: جرعة العنف من الجانبين، في التمرد على القانون وفي إنفاذه. والثاني يبدو رد فعل على الاول وهنا مرجع القلق.
التدقيق في التفاصيل قد يقود الى التساؤل عما اذا كان اطلاق الغاز المسيل للدموع كان ضروريا أم انه كان بالامكان اللجوء الى وسائل أقل ضررا، كسر الابواب مثلا؟ وتاليا عما اذا كان ذلك رهنا بقائد عملية الاعتقال ام انه يحتاج الى إذن من مسئول اكبر؟
انه التساؤل نفسه الذي تردد اثناء تفريق مسيرة العاطلين. في كلا الحالين كان هناك استنفار مسبق لدى رجال الشرطة، ففي حادثة الزلاق "صاحب سوابق" وصفته احدى الصحف بأنه مجرم خطير. وفي مسيرة العاطلين كان هناك إحساس بالتحدي المتبادل يخيم على الاجواء جراء الاعلان عن عدم الترخيص للمسيرة. لكن في كل الاحوال سيعود التساؤل مجددا عن معنى محدد ومقبول لمفهوم "الحزم الامني". في كلا الحالين كانت النتيجة في غير صالح الشرطة لانها كانت تشي بنوع من نفاد الصبر.
لكن هذا كله عندما يوضع في سياق أشمل، أي ما بتنا نشهده يوميا من شكوى مستمرة من الجرائم والسرقات وتعدد أشكال هذه السرقات وتفاهتها في بعض الاحيان واشكال مستجدة من العنف والتعدي على سلامة الغير المفضي الى الموت في بعض الحوادث، يقرع ناقوس إنذار أكبر وأخطر من ردود الفعل المباشرة.
إن ميول العنف لا تولد بين ليلة وضحاها، بل هي نتاج تراكم طويل وعوامل متباينة التأثير. لقد اعتدنا دوما ان نرد العنف الى الاعلام وخصوصا السينما والتلفزيون. واذا كان هذا التفسير صحيحا في جزء منه فهو ليس صحيحا بالمطلق وليس السبب الوحيد. فالعنف باعتباره انحرافا قيميا وأخلاقيا مثله مثل أية ميول أخرى تؤثر فيها عوامل عدة اجتماعية وثقافية واقتصادية ونفسية أيضا وتظهر ثمرة تراكم طويل.
الفقر وحده ليس كفيلا بخلق أجيال تختزن ميولا نحو العنف، فهناك مجتمعات يتفشى فيها الفقر دون أن يدفع إلى العنف بالضرورة. في أحسن الاحوال انه يشكل حاضنة له وبيئة مناسبة لنموه. ومنظومة الاخلاق تلعب في الغالب دورا مؤثرا هنا. ولولا ذلك، لأصبح غالبية الفقراء مجرمين ومنحرفين. لنتذكر هنا ان الفقر سيذكرنا بما هو أهم: التفاوت الطبقي في معناه الاشمل الذي سيقودنا في نهاية المطاف الى العدالة الاجتماعية وعدالة توزيع الثروة.
ليست هناك مظاهر محددة دون غيرها لميول العنف، فالعنف أحيانا قد يكون من النوع الذي يمارسه الاشخاص ضد انفسهم. حوادث الانتحار يمكن ان ترد أيضا الى ميول العنف. وفي الثمانينات، احصيت رقما عاليا لحوادث الانتحار بمجرد الرجوع الى ارشيف صحيفة. وكان الرقم بالعشرات لكنه مقلق الى حد كبير لأن الحوادث كانت متواترة في فترة زمنية قصيرة. اما مراجعة احصاءات الجرائم والجنح وانواعها فهي كفيلة بأن تطرح المدلولات الكافية لكي ندرك اننا بحاجة لمراجعة ودراسة هذا الميل المتنامي نحو العنف.
لست اختصاصيا لكي أمضي في تقديم التفسيرات، إنني أثير التساؤلات أكثر مما أقدم التفسيرات، يحركني مثل كثيرين القلق من تنامي ميول العنف هذه التي باتت تتسربل في حياتنا اليومية.
انه دور الاجتماعيين والمختصين بعلم النفس ودور الحكومة أيضا. وإذا كنا ننتظر مبادرة طوعية من المختصين للدراسة والبحث، فإن واجب الحكومة يقتضي منها المبادرة أيضا في هذا الجانب والاستماع الى رأي المختصين. فالازدهار والمستوى المعيشي الحسن لن يكون ذا معنى طالما ان ميول العنف تتصاعد في المجتمع
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 1054 - الإثنين 25 يوليو 2005م الموافق 18 جمادى الآخرة 1426هـ