إذا أردنا قراءة ما حدث في كل من لندن وشرم الشيخ وشارع مونو في بيروت في الأسبوع الأخير - والذي ربطت بينهم جميعا سلسلة من التفجيرات التي قتلت مجموعة من الأبرياء من جنسيات ومشارب اجتماعية مختلفة - قراءة سياسية، فإننا نجد أن تفجيرات لندن حدثت في أسبوع الاجتماع الأهم لقمة الدول الثماني الأغنى في العالم، وانفجار شارع مونو حدث في يوم زيارة وزيرة الخارجية الأميركية كوندليزا رايس لبيروت، وقبل أن تكتب الحكومة اللبنانية بيانها الوزاري الأول، وحدثت انفجارات شرم الشيخ في فجر يوم مهم للشعب المصري وهو ذكرى 23 يوليو/ تموز الذي استولت فيه مجموعة من ضباط الجيش المصري على السلطة قبل نيف وخمسين عاما.
المناسبات كلها سياسية، ولعله في المرة الأخيرة يقتنع البعض أن التفجيرات الحادثة وأعمال العنف والإرهاب في منطقتنا، في صلبها سياسية، وليست دينية، فلنتفق جميعا على إخراج المكون "الديني" من العمليات الإرهابية التي تعج بها الساحة الدولية، وساحة الشرق الأوسط على الخصوص. قد يستخدم البعض ذلك المكون للتغطية، وهو لدى كثيرين مسوغ للأفعال، ولكنه غير مقنع للعقلاء. وما أحوجنا اليوم إلى أن نستعير النقاش العقلاني الذي قال به الطبيب ابن الخطيب، فحيث قررت أوروبا العصور المظلمة أن الطاعون جاء وفقا لمشيئة الآلهة، قال ابن الخطيب إن الطاعون سببه "عوامل معدية بالغة الصغر" علينا أن نبحث بجد عن تلك العوامل بالغة الصغر المسببة للإرهاب اليوم.
الظاهرة الأخرى أن موجة الإرهاب التي نشهدها يقال لنا في أكثر من بيان إنها لهذا الفريق من الإرهابيين أو لذلك الفريق، ولكنها جميعا لا تقدم لنا وللعالم مطالب محددة، فلا تفجيرات لندن قالت لنا ماذا يريد الجناة أن يحققوه؟ غير التخرصات التي هي في مجال الرجم بالغيب، أما بيان محدد من الفاعلين يشير مباشرة لمطالب محددة فلم يصدر، كأن يتركوا خلفهم وثيقة تقرر لماذا قاموا بما قاموا به، ذلك لم يحصل حتى الآن. ولا مفجرو عملية شرم الشيخ فعلوا ذلك. ولا تفجير سيارة مفخخة في شارع مونو في بيروت.
الربط الذي قام به كثيرون هو ربط تحليلي عقلاني، وإذا كانت التفجيرات هذه كلها تنم عن مطالب سياسية فإن أحدا لا يعرف ما هي تلك المطالب.
المقاصد غير المحسوبة هي ليس عدد القتلى من الأبرياء والمدنيين، وليست مطالب سياسية محددة، وإنما المقاصد هي جعل الطرف الآخر، أي الحكومات، تقوم بالتشديد على مواطنيها وعلى غيرهم من أجل دفع شرائح جديدة للتذمر وإنكار ما يحدث لهم من تضييق وتقليص للحريات، فيصبح من الممكن بعد ذلك تجنيد عدد آخر جديد لدورة عنف أخرى، وهكذا حتى تكبر الكرة ولا يستطيع أحد أن يقدر على حملها.
كيف؟
إن أخذنا لندن مثالا على ذلك، فالمعروف أن هذا البلد كان مكانا فسيحا لحرية حركة المختلفين، سواء كانوا من بلدان الشرق الأوسط، أو من غيرها، نتيجة الوضع القانوني الذي ارتضاه البريطانيون لأنفسهم، وحتى في أقسى فترة المواجهة مع الجيش الايرلندي المحظور، لم تقم لندن بالتشديد على المواطنين من تلك البلاد "ايرلندا وشمالها" بل كانت السياسة المتبعة، هي سياسة انفتاحية وقبول، من دون الأخذ بالذرائع. واستمرت هذه السياسة وهي حكيمة، لأنها حولت "كل مواطن خفيرا". وفي الدراسات المنشورة للجريمة المنظمة أو السياسية في بريطانيا، نجد أن الكثير من المعلومات التي أتيحت لقوات الأمن جاءت أساسا من المواطنين. ولعل سرعة الكشف عن مرتكبي حادث لندن الأخير يؤكد ذلك.
هذا التسامح النسبي الذي جعل من البعض، نتيجة عدم معرفة أو جهل بالثقافة الغربية، يعتقد انه غير مسموع أو غير مرصود، يتمادى في الخلط بين السياسي والإرهابي. والآن هناك أصوات سياسية في بريطانيا تنادي بتضييق الحلقة على حركة مثل هؤلاء وربما طردهم، الذي تسامح معهم النظام البريطاني في وقت ما، نتيجة فهمه أنهم في بلادهم قد يلاقون عقابا أشد بكثير مما تسمح به التهم المنسوبة إليهم، ولعل التسامح ذلك كان يرسل رسالة أيضا إلى الأنظمة المختلفة بأن سياستها تجاه الانفتاح والديمقراطية وحقوق الإنسان وجب أن تسرع لخفض منسوب التوتر الوطني الداخلي، وهي نظرية مازالت قائمة.
إذا خنق هامش التسامح هو أحد النتائج المتوخاة جراء الأعمال الإرهابية في لندن وفي غيرها من الأماكن، وهو وإن انطلق من عقلية كارهة، فانه يحول، إن نجح، غالبية مسالمة، إن ضيق عليها، للدفاع عن نفسها إلى غالبية معادية، وبذلك يخلق عبئا جديدا على الحكومات الغربية، ويجعل الأقلية الآن الخارجة على النظام أكثرية في المستقبل.
وفي شرم الشيخ والانتخابات الرئاسية بعد بضعة أسابيع، وما يصاحبها من حوار سياسي ساخن، يقود إلى التحليل نفسه، وهو دفع السلطة للتضييق على المواطنين بحجة حماية الأمن، ما يسهل التعبئة لدى المتشددين ويتيح لهم فرصا أفضل.
حقيقة الأمر ان تلك النظرية، وهي أن التشدد يقود إلى تهيئة الأجواء للعنف كما تصح في الدول الغربية، تصح في بلادنا، فأي تشدد يدفع ثمنه المواطن، وتصبح الغالبية كارهة للوضع القائم.
والنتيجة تعكس إن كان هناك فهم أفضل لما يريد الإرهابيون أن يفعلوه، وهو دفع السلطات للتشدد مع مواطنيها، فان تحول المواطن نتيجة لسياسات القبول والحوار إلى "خفير" على مصالحه ومصالح وطنه، نضبت المياه التي يشرب منها الإرهاب، وقلت قدرة القوى المنظمة للإرهاب على الحصول على حطب الموت التي يرسلونها إلى حتفها تحت شعارات جوفاء، فلن توضع مقاييس لمحاربة الإرهاب الدولي أو المحلي، إلا متى أصبح المواطنون مقتنعين عن حق بالدفاع عن مجتمعاتهم، وقتها يصبح "كل مواطن خفيرا"، ويتحول النقاش من سياسي إلى عقلاني
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1054 - الإثنين 25 يوليو 2005م الموافق 18 جمادى الآخرة 1426هـ