اذا كان هناك من خلاصة بليغة للاشهر الستة - والحبل على الجرار؟ - العجاف التي عاشها لبنان أخيرا، فهي ان هذا البلد منكوب بطبقة سياسية مهترئة، ما عاد بيدها قرار ولا ارادة. فقدت البوصلة وباتت رهينة للعصبيات الداخلية والوصايات الخارجية. واذ كانت لوصايات هذه - الاقليمية منها والاجنبي الخارجي - قد مارست وتمارس هيمنتها على أموره وشئونه ومصيره، فإنها لم تكن لتفلح في ممارسة هذا الدور لو لم تشكل لها هذه الطبقة جسر عبور، للاستقواء بها، على بعضها بعضا.
صحيح ان البلد مبتلى بعلة مزمنة اسمها الطائفية، نخرته سوستها حتى العظم، لكن الأصح - بل والأخطر - ان اهل السياسة في لبنان باتوا مدمنين على هذا الفيروس. يستمرئون التعايش معه. بالاحرى، هم يعتاشون عليه، فارتهنوا له كأداة لعبورهم إلى نعمة الحكم. والفيروس بالتالي، استعبدهم ليواصل نهشه بالحكم وبالبلد. وإذا كانوا يعلمون بذلك مصيبة وإذا كانوا لا يدرون فالمصيبة اعظم. ذلك ان لبنان يعيش اليوم، حال من التآكل المتسارع في جسمه السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بسبب هذه المعادلة الجهنمية المستبدة به، أو بالأحرى، التي جعلتها أهل السياسية تستبد به.
اغتيال الرئيس رفيق الحريري في فبراير/ شباط الماضي جاء على مأسويته وطابعه البربري الاجرامي البشع، بمثابة "رب ضارة نافعة" خلف وقائع ومناخات مختلفة، كانت لفترة قريبة تبدو بمعزل عن الحكم. ابرزها انه ادى إلى وضع نهاية سريعة لعهد الوصاية السورية وانسحاب قواتها واجهزتها الامنية من لبنان. والأهم أنه أفرز حال من الصحوة والالتفاف الوطنيين، بدا فيها ان الحواجز بين معظم ألوان الطيف السياسي اللبناني قد تراجعت. أو على الأقل أصيبت بالضمور لمصلحة التقارب والتلاقي حول قواسم مشتركة احس اللبنانيون باهميتها بعدما افتقدوها لزمن طويل. لاح يومها في الأفق، احتمال حصول تحولات تصب في تعزيز المشروع الوطني. لمع ضوء غير مألوف، يوم 14 مارس/ آذار كانت ذروة ذلك اللمعان. طبعا لم تهبط الصحوة المطلوبة دفعة واحدة، لكن استجدت فرصة قابلة للتطوير، في أقلها، تملك قابلية التطوير. مع الأسف تبددت تلك اللحظة وبأسرع ما بدا انها تختزنه من زخم وطني مطلوب. فالاعطاب التي حفرتها الطائفية البغيضة في الساحة، عميقة ومزمنة، بالإضافة إلى ان القيادة اللازمة في هكذا لحظة تبين انها مفقودة. وكذلك مشروعها الجامع، فما ان انتهى الانسحاب السوري حتى عادت حليمة إلى عادتها القديمة، وعاد فرسان الطوائف الى داخل اسوار مرابعهم وكانتوناتهم. وتأجج التمترس وراء هذه الاسوار عندما تقرر إجراء الانتخابات النيابية في موعدها. انفرط دف ما سمي بالمعارضة وتفرق اقطابها بل تخاصموا وكادوا يتذابحون. وكذلك صار حال الموالاة التي تبعثرت عناصرها، منها من طار وتبخر أثره، ومنها من عقد تحالفات مع خصوم الامس، ضاعت الطاسة وعصفت رياح التطويف باقصى سرعتها، فانهار ما بدا انه الهيكل الخارجي لمشروع وطني جديد واطاحت المحاصصة الطائفية بالأمل الذي تبين انه لم يكن اكثر من سراب ووهم.
وبعد الانتخابات العجيبة الغريبة التي جرت في ظل قانون انتخابي مفصل سابقا على قياسات معينة لخدمة أوضاع معروفة، جاء دور تشكيل حكومة جديدة ، تعكس المعادلة الانتخابية المستجدة. وما أن صدر التكليف حتى عاد الدولاب إلى الدوامة ذاتها صفقات تحت الطاولة ومقالب ونزاعات على الحصص والمواقع... وفيتوات واعتراضات. كانت علامات الفركشة واضحة في العملية. والمفاتيح الخارجية مازالت حاضرة، ولو بصورة غير مرئية وبهامش أقل مساحة. لكن بفعالية ملحوظة، انعكست في تشكيل الحكومة وتوزيع حقائبها. وهي بكل حال تركيبة حصلت بالتلزيق، فقط لاجتثاث أزمة حكم. لكن ربما لبعض الوقت فقط، فهي محشوة بالتناقضات. توازنها الهش مهدد بالانفراط عند اقل اهتزاز، فكيف عند مواجهة الاستحقاقات القاسية، القادمة، مثل القرار 1559 والمطالب الدولية بتنفيذه؟ وهو امتحان، تشير كل الدلائل انه قادم ومرشح لادخال البلاد بأزمة سياسية. وقد تكون أزمة مزدوجة اذا ما تمخضت التحقيقات في قضية اغتيال الحريري، عن اتهامات كبيرة، كما أوحت به معلومات صدرت أخيرا عن رئيس اللجنة الدولية المكلفة بهذه المهمة. فالواقع ان المشهد الحكومي اللبناني الراهن هو أشبه بقنبلة موقوتة. وبالتأكيد هو لا يستجيب للتحديات ومتضارب مع المعطيات. وخطاب حسن النوايا الذي رافق ولادته يزيد من الارتياب ويرجح كفته اكثر بكثير ما يحمل على الارتياح ويرجح كفته بكثير مما يحمل على الارتياح كل طرف، مباشر أو غير مباشر فيه له أجندته وحساباته. الرئيس اميل لحود يعمل وفق ما يدعم ويعزز مواقعه باعتباره مستهدفا سياسيا ونجح، حتى الآن، في مناوراته لخدمة هذا الغرض. رئيس الحكومة يعتزم مواصلة نهج الحريري: محاولة حشر ومطاردة نظام لحود، من داخل المؤسسات، لتفكيك مراكز القوى فيه، وبالتالي تصفية الحساب مع بعبدا. حزب الله همه الاساسي وربما الوحيد: حماية سلاحه. الجنرال عون تحرك لضمان احتكار المعارضة، عله يكون - حسب ما يرى - الرابح الأكبر في آخر الجولة. سورية تتحرك هي الاخرى من موقع الهجوم كأفضل وسيلة للدفاع - في علاقاتها مع لبنان - لاحباط الهجمة الاميركية التي تعتقد انها تتجه لتأخذ من لبنان منصة انطلاق ضدها. واشنطن مع باريس إلى حدما ولو بحسابات مختلفة تستعجل قيام المؤسسات وبالتحديد الحكومة وأخذها الثقة - كما سبق واستعجلت اجراء الانتخابات - لتسارع إلى مطالبتها بترجمة القرار 1559 وما ينطوي عليه من الغام. مشهد تحتشد فيه كل عناصر التأزيم وعوامل التفجير، السياسي على الأقل. وفي التحليل الأخير، تكمن جذور الخلل الاساسي، لهذا الكوكتيل المفتوح على شتى ضروب المصائب، في اثنين: الطائفية والوصاية، وكلاهما بضاعة لبنانية بامتياز. في أحسن الحالات، بضاعة مقبولة من الطبقة السياسية اللبنانية، ولغاية أن تحسم هذه الأخيرة - بعد تجديدها وليس في تركيبتها الراهنة فإن الطائفية ليست قدرا وان الوصايا ليست ادمانا لا فكاك منه، فإن الدويخة اللبنانية متواصلة وتهدد بالوصول إلى حال من انعدام الوزن طالما بقيت هذه البضاعة الفاسدة في البيت الوحيد لمحرك السياسة اللبنانية
العدد 1053 - الأحد 24 يوليو 2005م الموافق 17 جمادى الآخرة 1426هـ