إن شارون يخطط للانسحاب من مستوطناته في غزة، ليستقر في مستوطناته الكبرى في الضفة الغربية بما فيها القدس، مرورا بالجدار العنصري الفاصل الذي يصادر آلاف الدونمات من الأراضي الفلسطينية. وأميركا وأوروبا تتحركان بطريقة ترحيبية احتفالية بهذا الحادث الذي اعتبرتاه "تقدما تاريخيا" في مسألة الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، بفعل الإيحاءات الشارونية بذلك للتغطية على مشروع الاستيطان في الضفة والقدس. يضاف الى ذلك الخطة الصهيونية في ممارسة القوة الوحشية ضد الشعب الفلسطيني بالعمليات الاستفزازية، اعتقالا واغتيالا وتدميرا، لتخريب أية عملية للتهدئة، ما يفرض على المجاهدين الرد الدفاعي لحماية شعبهم، وتحميلهم مسئولية ذلك لإيجاد مشكلة مع السلطة الخاضعة لأكثر من ضغط إسرائيلي وأميركي لمواجهة الفصائل المجاهدة، ولاسيما حركة حماس، ما يدفعها الى الدخول في صراع فلسطيني - فلسطيني لاستعراض عضلاتها في قتال المجاهدين، لإثبات قدرتها على التحرك لمواجهة "الإرهاب" - كما يسمونه - ما يؤدي الى سقوط القضية الفلسطينية.
وبذلك، فإن السلطة الفلسطينية لن تجد أية قوة لتحقيق الأهداف الكبرى للدولة الفلسطينية، بل ستواجه الاستعلاء الصهيوني، كما حدث في الاجتماع مع شارون الذي لم يجد فيه رئيس السلطة منه إلا الاحتقار، ولم يحصل من وزيرة الخارجية الأميركية إلا على الوعود الكاذبة، لأن التحالف الأميركي الاستراتيجي مع اليهود يخطط لإدخال الشعب الفلسطيني في متاهات الضياع، وهذا ما يفرض على الفلسطينيين الأخذ بأسباب الحوار والتفاهم ليتحركوا في خط الوحدة، فلا يجوز أن تتوجه البندقية الفلسطينية الى مجاهد فلسطيني، ولا يجوز إهراق الدم الفلسطيني بيد فلسطينية، ولكن لتنطلق كل البنادق في مواجهة العدو، وكل المواقف لهزيمته في احتلاله من أجل مستقبل التحرير.
أما العراق، فإنه يغرق في بحار من الدماء التي يغذيها الحقد الأعمى المتعصب المتخلف الجاهل لدى بعض الفئات التكفيرية التي تستبيح المساجد والأسواق والشوارع المكتظة بالمدنيين الأبرياء، من الأطفال والنساء والشيوخ، فتقتل العشرات والمئات بعناوين لا يمكن لأي مؤمن أن يجد لها أي مبرر أو أي مسوغ ديني أو إنساني. وها نحن نشهد بعد تطاير أشلاء الطفولة الأسبوع الماضي قتلا من نوع جديد، واقتحاما مفخخا وانتحاريا للمساجد في مجزرة المسيب، التي حصدت العشرات من الشهداء والجرحى في عمليات تنم عن حقد أعمى لا يمكن أن يأخذ عنوان القداسة أو المقاومة، وإن جرى إلباسها لبوسا دينيا أو وطنيا. ولا يمكن أن يبررها بعض الناس من خارج العراق بأنها تمثل ضرورات الحرب ضد الاحتلال، لأن هذه المجازر تنطلق بعقل بارد حاقد ضد الأبرياء بقصد هادف للقتل من أجل القتل.
كما أن اغتيال أعضاء لجنة صوغ الدستور من المسلمين السنة يؤكد أن ثمة أيد خفية تعمل بكل طاقتها لإشعال نيران الفتنة المذهبية في الساحة العراقية، وخصوصا أن هذا الأمر حصل في الوقت الذي تحركت فيه قوات الاحتلال - بحسب المعلومات المتوافرة لدينا - لإثارة الفتنة الطائفية من خلال إرسالها بعض الدوريات الى مناطق معينة، ثم دخولها الى هذه المناطق والاستفسار عن طبيعة المعاملة لإثارة الجانب المذهبي، بالسعي الى تحميل جهات عراقية داخلية المسئولية، في الوقت الذي يعرف فيه الجميع أنها هي المحركة لبعض هذه الجماعات هنا أو هناك.
إننا نطلب من المرجعيات الدينية والسياسية من السنة والشيعة أن يرتفعوا الى مستوى الخطورة التي يواجهها العراق، والذي نخشى معه من أن تتحرك أصابع الفتنة - لا سمح الله - لتعبث بكل المواقع في العالم الإسلامي، بفعل العصبيات العمياء التي يثيرها الإعلام والسياسة في أكثر من جانب.
وفي جانب آخر، فإن حركة التفجيرات لاتزال تفرض نفسها على الواقع في الغرب، كما حدث أخيرا في لندن، ما يترك تأثيره السلبي على واقع المسلمين ونظرة الناس إليهم والى الإسلام بالذات، ولاسيما أن بعض الزعماء الجمهوريين في أميركا يهدد بأن الإرهابيين إذا قصفوا الولايات المتحدة فسيقوم الأميركيون بقصف مكة، بالإضافة الى مقدسات المسلمين. والمسألة تستدعي موقفا وحدويا على مستوى العالم الإسلامي، من أجل تحصين الواقع كله من الحملات التكفيرية الإرهابية والممارسات الوحشية، انطلاقا من خطة نابعة من إرادة المسلمين جميعا، بعيدا عن تدخلات الأنظمة التابعة لأميركا.
أما في لبنان، فقد انطلقت الحكومة الجديدة التي نريد لها أن تتحرك في خطة حكيمة مدروسة على أساس المسئولية الكبرى التي تنتظر الجميع، في التصدي للهموم المعيشية والاقتصادية الضاغطة، ولفرض حال معقولة من الاستقرار السياسي، ومواجهة الفراغ الأمني الذي يضاعف من اهتزاز الثقة بين الناس، وخصوصا في ظل الفلتان الذي تتحرك فيه مجموعات غير منضبطة، كما حدث في بعض المناطق، ما يوحي بأن شعارات المصالحة الوطنية لم تنزل الى الأرض، وأن الاتفاقات من فوق لم تستطع أن تترك تأثيرها على الواقع الميداني، ولاسيما أن الخلفيات الدولية كانت تختفي وراء أكثر من حركة للتدخل في ولادة هذه الحكومة. إننا نتطلع الى لبنان العدالة الذي يتساوى فيه الجميع أمام القانون في المساءلة والمحاسبة والمحاكمة، وكذلك في العفو الذي نريده مرتكزا على قاعدة ثابتة ليكون شاملا إذا كان ثمة من يتحدث عن مرحلة جديدة لبناء البلد. إن لبنان المستقبل يتطلع الى خطة سياسية تبني دولة المؤسسات لا مزرعة الأشخاص، ومرجعية الوطن لا مرجعية الطوائف، فهل تتحقق أحلام اللبنانيين بعيدا عن كل الكوابيس المخيفة؟
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1052 - السبت 23 يوليو 2005م الموافق 16 جمادى الآخرة 1426هـ