سألَ صحافيٌ ناخبا جزائريا عن صوته لمن أعطاه خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، فردّ الناخبُ بأنه صوّت للرئيس الحالي عبد العزيز بو تفليقة. فأعاد الصحافي عليه السؤال: لماذا؟ فقال هذا المواطن الجزائري: رأيت البارحة (ليلة التصويت) في المنام الرئيس بوتفليقة وهو يفتح ثلاثة أقفال مُتوالية، ففهِمت أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يُبلغني رسالة مفادها أنه جلّ شأنه راضٍ عن بوتفليقة بل ويدعو للتصويت له، وأنه (بوتفليقة) يفتتح الأقفال الثلاثة كناية عن رغبة السماء في أن يُكمل الرئيس ولاية رئاسية ثالثة.
هنا يُمكن الحديث عن نفسيّة الشعوب وأسقامها. ليس بالضرورة أن تلك الحادثة تعكس مرضا عاما عند الجزائريين، لكنها بالتأكيد تُعطي انطباعات مُحدّدة إذا ما ضُمّت إليها النتيجة الفعلية للانتخابات.
في الحادي والعشرين من شهر ديسمبر/ كانون الأول 1991 فازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية الجزائرية، إلاّ أن الجيش أعلن بطلان النتائج وإعلان حالة الطوارئ لتدخل البلاد في أسوأ موجة عنف في تاريخها.
من يقرأ حقبة التسعينيات الجزائرية لا أظنّه سيجد غير لوحة حمراء قانية. فقد خَسِرَ الجزائريون 400 ألف إنسان وعشرين ألف مفقود في بحر عشرة أعوام لم يذهبوا في معركة وطنية طاهرة، وإنما بسبب ثمانية آلاف عملية إرهابية تحمل من القذارة ما تشيب له الوِلْدَان.
منذ سيطرة الجيش على مقاليد الحكم واعتقال قيادات جبهة الإنقاذ فُتِحَ الباب أمام أكثر خلق الله شرا وبُعْدا عن السماء. فكرٌ خَارِجيٌ أرعن، يلتحفه ذئاب بشرية، يضعون حول جباههم عصابة مكتوب عليها «الغاضبون على الله».
وإبهامهم الأيمن مبتور، وأهدابهم محروقة، ورؤوسهم حليقة، ولحاهم طويلة مُخضّبة بحنّاء (راجع كتاب من قُتل في بن طلحة) يجوبون القرى النائية والأحراش والمدن المقطوعة، لينقضّوا عليها في المساء، فيقتلون الرجال والنساء والعجائز واليافعين والأطفال والمُقعَدين والمعتوهين بأقسى ما يُمكن أن يفعله أحدٌ بكلبٍ عقور.
تخيّل أن القتل لا يكون إلاّ بالسلاح الأبيض والفؤوس. تُضرب الضحية بالفأس على ظهرها فتسقط، ثم يُحَزُّ الرأس، ثم تُقطّع الأوصال والأعضاء ابتداء من إبهام القَدَم. ومن يهرب، يتمّ التعامل معه بالرصاص عن بُعد. وقبل الرحيل تُضرم النيران في البيوت.
في مجزرة رايس مثلا قُتِل ثلاثمئة إنسان برئ أثناء حفل زفاف أقامه الأهالي للإرهابيين بعد أن استوثقوا منهم عدم استهداف المدنيين. وفي حيّ سيدي يوسف عند طرف غابة بَيْنَام قُتِلَ تسعون جزائريا بالسلاح الأبيض في وجبة واحدة. وبعد يوم عاد المهاجمون وقتلوا خمسة وأربعين شخصا. (راجع نفس المصدر).
هذا العنف التسعيني الأعمى بدّل من ثقافة الجزائريين كثيرا. وجَنَحَت مجاميع اجتماعية عديدة لاستصلاح (كما ترى هي) أوضاعها السياسية والدينية والثقافية بمستويات راديكالية قد لا تتفق والسياق التاريخي للجزائريين.
بالتأكيد فإن الشارع لا يجيد فَتْلَ التفاصيل وزوايا الأحداث كما يراها المعنيون، بقدر ما يجيدون الاختزال. لذا فقد بدّل الجزائريون الكثير من قناعاتهم الدينية لدرجة أن العديد منهم أخذوا في تقبّل البهائية كدين يُؤمن أولا بالأخلاق التي بخّر الإرهابيون جذوتها في المجتمع.
في السياسة بدأ الجزائريون في الاقتناع بالواقع السياسي الحالي مهما بلغَت سوءاته، لأنه (حتما) لن يكون أسوأ من سلوك الجماعات الإسلامية المسلحة التي استباحت البلاد طيلة عقد كامل.
اليوم لم يعد انقلاب الجيش على نتائج انتخابات 1992 حدثٌ مأسوف عليه من قِبَل الجزائريين. فهو باعتقادهم قد شذّب الحياة السياسية كما يجب. وأن من فازوا كانوا سيجلبون الدمار للجزائر لو أنهم تقلّدوا زمام الأمور.
بالطبع فإن الخيمة وقعت على جميع الطيف الإسلامي بما فيه الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي لم تتلطّخ يدها بالدم الجزائري. لكن الناس لا أظنّ أن كانت تُفرّق بين لحية «إنقاذية» وأخرى «زوابرية».
إن حازَ الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة على نسبة تصويت أهّلته للفوز برئاسة ثالثة فهي حقيقة أكيدة بعيدا عن مزامير الأحزاب المعارضة التي تعتاش على تهمّة التزوير في كل عملية انتخابية صغيرة أم كبيرة.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2416 - الجمعة 17 أبريل 2009م الموافق 21 ربيع الثاني 1430هـ