معركة الانتخابات النيابية في لبنان تكشف تباعا عن أوراق تعطي فكرة عن تعقيدات التضاريس السياسية في بلد صغير تتكاثر فيه الطوائف والمذاهب. فالبلد تتجاذبه تيارات متقلبة في توجهاتها الأيديولوجية ولكنها ثابتة إلى حد معين في ولاءات فرعية وصغيرة تتصل بالمنطقة (الدائرة الجغرافية) والعائلات الارستقراطية والعشائر.
الانقسامات الجزئية التي لا تظهر على الشاشة السياسية الكبيرة تلعب أحيانا الدور الأساس في تحريك آليات الاقتراع وإنتاج السلطة التشريعية. وأهم لاعب خفي ظهر في دائرة التنافس في السنوات الأخيرة هو «الشهيد». فهذا الكيان الصغير يعتبر فعلا بلد الشهداء وربما يحتل المقام الأول في الترتيب إذا أخذت في الاعتبار مساحته الجغرافية وكثافته السكانية. فالحروب الأهلية- الإقليمية التي بدأت رسميا في 13 أبريل/ نيسان 1975 وانتهت نظريا في العام 1989 جرفت معها أكثر من 200 ألف شهيد و17 ألف مفقود وشردت وجرحت مئات الآلاف من كل الطوائف والمذاهب. وبعد توقيع «اتفاق الطائف» توقفت آلة الحرب الأهلية ولكن الاعتداءات الإسرائيلية تواصلت في سنوات 1990 و1993 و1996 و2000 و2006 ما دفع العلاقات الداخلية إلى التأزم فحصلت مناوشات مذهبية في أحياء طرابلس وشوارع بيروت وأزقة زحلة ومحيطها في البقاع الأوسط واندلعت حرب مخيم البارد التي انتهت بسقوط المئات من الجانبين وتشريد الآلاف.
«بلد الشهداء» ليس شعارا مفتعلا وإنما هو حقيقة يمكن قراءة تفصيلاتها استنادا إلى الوقائع الميدانية والوثائق والأراشيف. والجديد في صورة هذا الكيان الذي تحمل أكثر من طاقته ذاك المشهد النيابي الذي يمكن أن يتشكل بعد الانتخابات التي ستعقد في 7 يونيو/ حزيران المقبل. فالبرلمان عادة يشكل عينة واقعية عن تشكيلة البلد. والعينة المضافة إلى توزع مقاعده يمكن رؤية صورتها من خلال لائحة أبناء الشهداء وأشقاء الشهداء من كل الطوائف والمناطق.
عينة الشهداء (الآباء والأشقاء) تعطي فكرة عن تلك الكارثة التي أصابت هذا البلد الصغير منذ سبعينيات القرن الماضي حتى الآن. فالعينة تعكس فعلا لغة الأرقام وتلخص الكثير من المعطيات التي تحتاج عادة إلى بلاغة لغوية للإقناع. إلا أن مراجعة قائمة المترشحين من أبناء وأشقاء الشهداء على المجلس النيابي كافية للإشارة إلى هول المأساة التي أصابت هذا الشعب في تاريخه المعاصر. وفي حال نجحت كل القائمة الموزعة على المناطق (الأقضية) والدوائر والطوائف والمذاهب في الانتخابات المقبلة يرجح أن يكسر المجلس النيابي الجديد الأرقام القياسية العالمية في نسبة تمثيل الشهداء قياسا بالحجم الجغرافي والتعداد السكاني. فالرقم مخيف في مجموعه العام ويستحق دخول موسوعة «غينس» لكونه يشكل عينة مختارة عن فاجعة إنسانية زعزعت أركان بلاد الأرز.
هناك الكثير من المترشحين في الانتخابات المقبلة إلا أن صورة الشهداء بدأت تكبر وتتعزز هيئتها دورة بعد أخرى، ويرجح أنها بلغت درجة متقدمة في إطار التنافس الساخن الجاري الآن في معركة 2009.
مجرد قراءة قائمة أبناء وأشقاء الشهداء فإنها تكشف الغطاء عن المشهد اللبناني في صورته الحزينة المتناثرة على أقضية (دوائر انتخابية) المترشحين في طرابلس وزغرتا والكورة والمتن الشمالي وبيروت والشوف وصيدا وزحلة والبقاع الأوسط (الغربي). عمر كرامي (شقيق رئيس الوزراء رشيد كرامي)، سليمان فرنجيه (ابن الوزير طوني فرنجيه)، ميشال معوض (ابن رئيس الجمهورية رينيه معوض)، سليم سعادة (شقيق الناشط السياسي نقولا سعادة)، سامي الجميل (شقيق الوزير والنائب بيار الجميل)، نديم الجميل (ابن رئيس الجمهورية المنتخب بشير الجميل)، نايله تويني (ابنة النائب والصحافي جبران تويني)، وليد جنبلاط (ابن النائب والزعيم السياسي كمال جنبلاط)، دوري شمعون (شقيق الزعيم السياسي داني شمعون)، أسامة سعد (ابن النائب والزعيم السياسي معروف سعد)، سعد الحريري (ابن رئيس الوزراء رفيق الحريري)، بهية الحريري (شقيقة رئيس الوزراء رفيق الحريري)، ايلي ماروني (شقيق الناشط السياسي ناصيف ماروني)، زياد القادري (ابن النائب ناظم القادري)، سعد الدين خالد (ابن مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد).
قائمة أبناء وأشقاء الشهداء تشمل 15 مترشحا من مجموع المقاعد وهي نسبة مرتفعة في حال نجحت كلها في معركة التنافس. فالمقاعد 128 وهناك مواجهات بين أبناء الشهداء في بعض الدوائر (زغرتا مثلا) أو بين الأبناء والأشقاء (صيدا مثلا). وهناك أيضا تحالفات بين أولاد الشهداء كما هو حال الدائرة الأولى في بيروت (الجميل وتويني). وهناك تحالفات بين ابن شهيد وشقيق شهيد كما هو حال دائرة الشوف (جنبلاط وشمعون). وبغض النظر عن الفائز في قائمة الشهداء تعتبر العينة أهم دليل حسي ودامغ يؤكد المدى العنفي الذي ذهب إليه لبنان في اضطراب علاقاته الأهلية والإقليمية.
قائمة الشهداء محصلة تختزل الكثير من تفصيلات المشهد اللبناني. ويرجح أن تكون هناك الكثير من الأسماء المجهولة في عداد الشهداء ترشحت في هذا الموقع أو ذاك من دون أن تلقى الانتباه.
مجلس النواب الجديد الذي سيعلن رسميا عن هيئته السياسية بعد 7 يونيو سيضرب فعلا الرقم القياسي العالمي من حيث احتواء مقاعده على أكبر عدد من ممثلي أسر وعائلات الشهداء (أبناء وأشقاء) في دورة واحدة. فهذا البرلمان سيكون بمثابة «مجلس الشهداء اللبناني» لكونه يعكس خريطة سياسية ميدانية تشكل عينة مختارة عن واقع دموي عاشه هذا البلد الصغير والجميل في العقود الأربعة الأخيرة من تاريخه الحديث.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2416 - الجمعة 17 أبريل 2009م الموافق 21 ربيع الثاني 1430هـ