اختلفت السياسة المالية للدولة الإسلامية إذا في عصورها الأولى بين فترة وفترة، إذ كان كل خليفة يستن ما يراه مناسبا للظروف والحاجات والامكانات وتقلبات المناخ والطبيعة. واعتمدت كل تلك السياسات على الكتاب والسنة والاحاديث كمراجع شرعية لتنظيم العلاقات وتحقيق العدل، خصوصا في العهد الراشدي. وحرص الخلفاء على عدم تكليف الناس ما لا يطيقون وتحميل الأرض ما لا تطيق. وأحيانا لجأت الدولة الى اعفاء الضعفاء والأرامل وبعض ارزاق الفقراء من الفيء أو الخراج.
وأطلق على مجموع تلك الممارسات ما عرف لاحقا بالفقه الذي شمل مختلف القطاعات من تنظيمات وجيوش وقضاء وعمران واقتصاد وجبايات. وكما يقول أبو داود في سننه: الفقه يدور على خمسة احاديث. الحلال بين والحرام بين، لا ضرر ولا ضرار، انما الأعمال بالنيات، الدين نصيحة، وما نهيتم عنه فاجتنبوه وما أمرتم به فآتوا منه ما استطعتم.
وضمن هذه الحدود تشكلت المفاهيم الاقتصادية وغيرها في التاريخ الإسلامي بناء على التجارب المستندة الى الكتاب والسنة.
وكان العهد النبوي هو المثال ومنه يؤخذ القياس للتعاطي مع مسألة طارئة أو حالات جديدة. وعلى هذا فرض الخليفة الراشد الثاني مثلا على الكرم 10 دراهم، والرطبة خمسة، وعلى كل ارض يبلغها الماء درهما ومختوما، وعلى النخل اذا سقي بالسماء العشر وعلى ما سقي بالدلو نصف العشر، وما كان من نخل عملت ارضه فليس عليه شيء.
وأحيانا اعتمد الخلفاء تجارب غيرهم من الأمم السابقة على الإسلام اذا وجدوا فيه عدلا ومنفعة وأحيانا كانوا يعدلون نسبة الجباية اذا وجدوا فيها ظلما وضررا كما فعل الخليفة الراشد الثاني حين استدعى قبل مسح السواد في العراق من يمثل أرض الفتوح وسألهم عن نسبة الضريبة التي كانت تعطى للاعاجم في أرضهم فقالوا 27 درهما. فاستكثر المبلغ وقام بتنظيم الخراج بحسب الموارد وصنف الضريبة بتدرج فوضع على كل جريب عامر أو غامر يناله الماء قفيزا من حنطة أو قفيزا من شعير ودرهما، ثم ألغى الكرم والرطاب وكل شيء من الأرض، وجعل على كل رأس 48 درهما للأغنياء و24 درهما لاصحاب الدخل المحدود و12 درهما للفقراء، وضيافة ثلاثة أيام لمن مر بهم من المسلمين.
واختلفت السياسة الضريبية "الخراج والجزية" في عهد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان حين احتاجت الدولة لمزيد من المال، فاستحدث مثلا ضريبة العمل "الدخل السنوي" التي وضعها الضحاك بن عبدالرحمن على أهل الجزيرة، إذ جعلهم كلهم عمالا بأيديهم وألزمهم ذلك جميعا فجعلهم طبقة واحدة. ثم اعتمد نظام قرب الأرض وبعدها، فجعل على كل مئة جريب زرع ما يقرب الدينار، وعلى كل ألف اصل كرم ما يقرب الدينار، وعلى كل ألفي أصل مما بعد دينارا، وعلى كل 100 شجرة من الزيتون ما يقرب الدينار، وعلى كل 200 شجرة زيتون مما بعد دينارا.
واختلف النظام الضريبي في عهد الخليفة الزاهد عمر بن عبدالعزيز عن سياسات من سبقه ثم تعدل مجددا بعد وفاته. وبسبب اختلاف الممارسات اختلفت السياسات وتعددت، نتيجة تطور اقتصاد الدولة من مرحلة الغنيمة الى مرحلة الخراج وباتت تلعب الدور الاساس في تمويل الجيوش وتنظيم الإدارات وتعزيز الثغور. فالخراج والفيء والعشر باتت من حاجات الدولة الاساسية حتى تقوم بدورها على المستويين العمراني والجهادي. وهو أمر فرض إعادة تنظيم خزانة الدولة "بيت المال" وترتيب مداخيلها وأوجه انفاقها بدلا من قسمة الغنيمة بمن حضر.
وأدى تطور دور الدولة وتنوع مهماتها الى تعدد ممارساتها بسبب انتقال اقتصادها من البسيط الى المركب، فأحدث الأمر بعض الارباكات في مطلع عهد الدولة العباسية، فاضطر الخلفاء الى الطلب من العلماء والفقهاء والقضاة وضع دراسات واضحة تحدد الاوجة الشرعية للأنظمة الضريبية، خصوصا تلك التي اتبعت في فترة البعثة والعهد الراشدي، فظهرت سلسلة كتب اقتصادية تناولت الخراج والأموال وتميزت بشموليتها ودقتها النظرية وتوثيقها لفترة شديدة الأهمية في تاريخ الإسلام.
تدرج تطور الاقتصاد كذلك تدرجت أسسه المعرفية حتى تبلورت في أنظمة متكاملة.
في النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة بدأت الكتب الجامعة لقوانين الاقتصاد الإسلامي بالصدور تباعا. قبل تلك الفترة اقتصرت الكتابات على مقالات "خطابات" محددة تناولت قطاعات انتاجية أو مالية أوضحت بعض الجوانب الغامضة في علاقة الدين بالدولة أو الدولة بالمجتمع.
اختلف الأمر في الفترة العباسية الأولى حين اتسعت رقعة الدولة وانتشرت الدعوة وتحولت الى نموذج حضاري يستقطب الشعوب المختلفة، فازدادت تبعا لذلك مهمات الخلافة وضغطت الحاجات نحو رسم قوانين واضحة تحدد مختلف الوجوه الشرعية للجباية وعلاقة الحاكم بالرعية.
آنذاك ألف القاضي يعقوب بن ابراهيم "أبويوسف" كتاب "الخراج" بتكليف من الخليفة العباسي هارون الرشيد. وجاء التكليف بسبب تضارب الآراء والاجتهادات في مسألتي المال والخراج.
تناول كتاب القاضي أبويوسف "113 - 182 هـ/731 - 798م" مختلف القطاعات وتركزت اجاباته على موضوع مالية الدولة ومصادر الموازنة وطرق انفاقها. فالكتاب هو شرح وتفسير لنظم الجباية والخراج والعشور والصدقات. فبدأ بمقدمة توضيحية لفكرة العدل في الإسلام واصول الفقه الاقتصادي ومقاصده الشرعية مستندا الى الكتاب والسنة مواثيق الرسول "ص" ومعاهداته وعهوده وكتبه اضافة الى نهج الخلفاء في العهد الراشدي وبعض محطات العهد الأموي وما صدر خلالها من فتاوى واقوال للخلفاء والفقهاء والعلماء وغيرها من جوانب تطبيقية للنظريات العامة.
بعد كتاب القاضي أبويوسف جاء كتاب "الخراج" أيضا ليحيى بن آدم بن سليمان القرشي الأموي.
توفي ابن آدم في العام 203 هـ/818م، ولا يعرف متى ولد ويرجح قبل العام 140 هـ/ 757م. ويعتبر كتابه عن "الخراج" من اهم المراجع النظرية التوثيقية عن الموضوع. فابن آدم ابتعد عن النظرة التجريبية واهتم بإبراز العناصر المفهومية انطلاقا من الكتاب والسنة.
عاش ابن آدم في عهد الخليفة العباسي المأمون وابتعد عن السياسة واكتفى بتحصيله العلمي وتدريس الفقه وانشغل في تصنيف الاحاديث النبوية الشريفة الأمر الذي ساعده في تأليف "الخراج" ورفع من مكانة كتابه بين العلماء والقضاة.
عاصر ابن آدم القاضي أبويوسف وألف كتابه في فترة لاحقة على رحيل القاضي، فجاء "خراجه" يكمل بعض الجوانب النظرية لخراج أبويوسف ويضيف عليه الكثير من المسائل إذ انصب تفكيره على تركيز المصطلحات وتأصيل مفاهيمها. فبحث قدر الامكان عن الجذور التاريخية للكلمات مستندا الى أحاديث الرسول "ص" وأقوال الصحابة وما نقلوه عنه من أمور وممارسات وقعت في عصر البعثة النبوية.
الى "الخراجين" يعتبر كتاب "الأموال" للقاسم بن سلام "أبوعبيد" احد أهم المصادر الاقتصادية في توضيح المفهوم الإسلامي لمالية الدولة، ويأتي الثالث في ترتيبه الزمني بعد القاضي أبويوسف والفقيه ابن آدم. ويعتبر محطة مهمة في تطور أسس المعرفة الاقتصادية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1050 - الخميس 21 يوليو 2005م الموافق 14 جمادى الآخرة 1426هـ