حذر السيدمحمدحسين فضل الله من أن أميركا و"إسرائيل" تعملان على إنهاء القضية الفلسطينية وفرض التوطين قانونيا وواقعيا من خلال الاستغلال الكامل لحال الانهيار وعدم التوازن التي يعيشها العرب والمسلمون. وأبدى خشيته من أن تؤسس التدخلات الدولية الأخيرة في لبنان، وخصوصا الأميركية منها لفوضى سياسية واقتصادية جديدة قد تمهد الطريق لفوضى أمنية، مطالبا بحركة تصالحية تنطلق من الاتفاق على مشروع إصلاحي يتفق عليه الجميع.
جاء ذلك ردا على سؤال في ندوته الأسبوعية بشأن الموقف الإسلامي من ثنائية العدل والظلم، وفيما يأتي نستعرض الجواب.
لم تخرج النظرة الإسلامية للدين بعامة عن كونه حركة عدل شاملة تستهدف رفع الظلم عن كاهل البشرية وتهيئتها نفسيا وروحيا وعلميا لمواجهة الظلم وبناء مجتمع الخير والعدل الذي يقدم نموذجا في الدنيا لجنة مصغرة تعطي الفكرة عن الجنة الموعودة في السماء، وتنقل الإنسان من واقع القهر والقتل والتدمير والفقر إلى رحاب الخير والنمو والعطاء. وقد أوضح القرآن الكريم الهدف الكبير من وراء إرسال الرسل في كونه يتمثل بإقامة العدل في الحياة: "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط" "الحديد: 25". وعلى هذا الأساس نفهم الدين في تشريعاته وأحكامه كمنطلق لخدمة الإنسان، من حيث حرصه على توفير أجواء العدل ودفع غائلة الظلم وترسيخ أساس العدالة بين الناس، بصرف النظر عن انتماءاتهم القومية أو هوياتهم السياسية أو العرقية والدينية، وما إلى ذلك.
التقوى السياسية
إن الدين ليس مجرد طقوس يعيشها الإنسان في المسجد أو الكنيسة من دون أن يكون مسئولا عن الحياة، وإذا كانت السياسة تمثل الوسيلة أو البرنامج أو الخطة التي تحفظ للإنسان سلامه وأمنه واستقراره في علاقته بالإنسان الآخر، فهي تلتقي بالدين من حيث أنها تنفتح على العدل بكل معانيه وأبعاده، سواء كان عدل الحكم أو القانون أو العلاقات الاجتماعية، ولذلك فنحن نجد أن هناك ارتباطا عضويا بين الدين والسياسة، وعندما نفهم المسألة بهذه الصورة يمكننا الجزم بأن التقوى السياسية هي في أعلى درجات الالتزام الديني، إذ إن السياسة في وظيفتها وأبعادها وحركتها تتصل بمصير الناس.
ومن هنا حرص الإسلام على حماية الناس كلهم ونظر إلى الظلم كخط انحرافي خطير بصرف النظر عن الثقافة أو القاعدة التي ينطلق منها الظالم، وعن هوية المظلوم. ونحن نقرأ في بعض أدبياتنا الإسلامية أن الله تعالى أوحى إلى نبي من أنبيائه في مملكة جبار من الجبارين أن ائت هذا الجبار فقل له: "إني إنما استعملتك لتكف عني أصوات المظلومين، فإني لن أدع ظلامتهم وإن كانوا كفارا...". فالمسلمون معنيون حتى خارج الدولة الإسلامية أن يكونوا في جماعة العادلين، وحتى مسألة الغيبة انطلقت على أساس فكرة العدل الشامل التي لابد من السعي إلى تأكيدها على مستوى العالم. والإسلام يعتبر أن للكافر حقا في أن تعدل معه، إذ يجب علينا أن نعدل مع كل الناس على أساس أن العدل لا دين له، وكذلك فالظلم لا دين له، فعلينا أن نستنكر الظلم من كل الناس، لأن قضية حق الإنسان هي مسألة مقدسة بصرف النظر عن انتمائه أو دينه، ومن هنا رأينا أن ثمة من يجزم داخل الواقع الإسلامي والعلمائي بأن الحاكم العادل إذا كان غير مسلم هو أفضل من الحاكم المسلم الجائر، لأن وظيفة الحاكم الأساسية تتمثل في إعطائه العدل للناس وفي حمايتهم من الظلم والتعسف وما إلى ذلك.
وبالنظر إلى حساسية هذه المسألة ودقتها، تشدد الإسلام مع المنتمين له حتى لا ينحرفوا في الموقف على أساس عاطفي أو لحسابات نسبية أو مناطقية وما إلى ذلك، وطلب منهم أن يعدلوا حتى على حساب ذوي القربى، بل أكد عليهم أن يعدلوا حتى مع الذين يختلفون معهم في الموقف أو يكنون لهم حالا من البغض: "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى" "المائدة: 8". ولذلك فإن المطلوب من المسلم في كل عصر ومصر، وفي بلاد الاغتراب وغيرها أن يكون عادلا مع الآخرين، وأن يرفض الظلم حتى وإن انطلق من بيئته وجماعته، لأن رفض الظلم هو جزء من الالتزام الديني، وهو يعني فيما يعنيه أن يكون المسلمون هم الذين يحملون شعار العدل وعدم ممارسة الظلم انطلاقا من وصية الإمام الصادق "ع" للمسلمين من حوله: "اعدلوا فإنكم تعيبون على قوم لا يعدلون"، وفي تراثنا الديني أن الإمام زين العابدين "ع" في بعض أدعيته حث الإنسان المسلم على العدل مع العدو، وعلى أخذ الحق من الصديق لأن المسألة لا تحتمل المراوغة أو التحفظ أو المداهنة "... حتى يأمن عدوي من ظلمي وجوري وييأس وليي من ميلي وانحطاط هواي".
وعلى هذا الأساس فنحن نرفض الظلم بصرف النظر عن موقعه، حتى لو كان موقعا إسلاميا ونرحب بالعدل حتى لو جاء من بيئة الكفار، ونقف مع المظلومين حتى لو لم يكونوا من أبناء جلدتنا لأن رسالتنا تقتضينا أن ندافع عن المظلومين والمقهورين. وعندما وقفنا مع الشعب الفلسطيني في محنته ومظلوميته كنا ندرك تماما أن قضيته تمثل المصداق للمظلومية التي لا يعيشها أي شعب معاصر، ونحن نريد لكل أحرار العالم كما نريد لشعوبنا العربية والإسلامية أن تقف بقوة مع هذا الشعب، وخصوصا في هذه المرحلة التي يراد فيها أميركيا وإسرائيليا إنهاء القضية بالكامل وفرض التوطين قانونيا وواقعيا من خلال الاستغلال الكامل لحال الانهيار وعدم التوازن التي يعيشها الواقع العربي والإسلامي.
ونحن نحذر من أن الإدارة الأميركية التي تعيش الإرباك في المنطقة بفعل الانكشاف السياسي والأمني الذي أصيبت به بعد احتلال العراق تحاول أن تقتص في مواقع أخرى لفرض الأمر الواقع الجديد في فلسطين، مع ما يعنيه من تركيز للمخطط الاستيطاني والتهويدي الإسرائيلي في القدس والضفة والتحضير لفتنة فلسطينية داخلية تعقب الانسحاب من غزة، وإشغال الواقع العربي بالتفاصيل الأمنية التي تبعد العنوان السياسي سواء في فلسطين أو غيرها.
ومن هنا فنحن نخشى من أن تكون التدخلات الدولية الأخيرة في لبنان وخصوصا الأميركية منها قد ساهمت في إدخال البلد في حال ضبابية تؤسس لفوضى سياسية واقتصادية جديدة، وقد تمهد الطريق لفوضى أمنية متنقلة يصرخ اللبنانيون في نهايتها طالبين الخلاص ولو على حساب عناوينهم الكبرى في مسألة التحرير، وفي الموقف الذي لابد للبنان أن يبقى متحركا فيه حيال التزاماته العربية والإسلامية وخصوصا المسألة الفلسطينية. ولذلك نريد لكل الذين يتحملون المسئولية في لبنان ويديرون الحركة السياسية في تفاصيلها، أن يلتفتوا إلى أن الخطة المرسومة قد تستهدف إشعال بعض الحرائق بما يجعل الصيف اللبناني أكثر التهابا على المستويات السياسية والاقتصادية، وهذا ما يقتضي حركة تصالحية مضادة تنطلق من مشروع إصلاحي يتفق عليه الجميع لا من مشروع انتقائي تطلقه فئة معينة وتعمل لتعميمه على الج
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1050 - الخميس 21 يوليو 2005م الموافق 14 جمادى الآخرة 1426هـ