تشير أكثر الدراسات العسكرية الأميركية والإسرائيلية والعربية على حد سواء، إلى أن إيران لا تحتاج الى أكثر من أربعة أعوام مقبلة حتى تنظم إلى النادي النووي الدولي. ولا يمكن بأي حال من الأحوال منع هذه النتيجة إلا عبر سيناريوهين اثنين، الأول، هو أن تتنازل إيران نفسها عن هذا الطموح النووي، وهو خيار مستبعد، أما السيناريو الثاني هو أن تتعرض إيران لضربة عسكرية جوية موجعة بالغة الدقة وتتصف بالسرعة، وهي عملية قد تجر وراءها الكثير من العواقب.
وستنجح إيران في هذا الطريق في حال توافر غطاء روسي لمشروعها النووي، بمعنى أن تلقي روسيا الاتحادية بثقلها كاملة في دعم دخول الإيرانيين إلى النادي النووي، بما يشمل الإعلان الرسمي بأن أية عملية عسكرية ضد إيران هي بالتالي ضد روسيا، وهو خيار يحمل الكثير من المصالح الاستراتيجية للروس في منطقة الشرق الأوسط، وتبقى هناك فرضية ضعيفة بأن تستطيع إيران الانضمام للنادي النووي، في حال انشغال الولايات المتحدة و"إسرائيل" عن الملف الإيراني بملف أكثر ثقلا وتعقيدا، كعملية سبتمبرية جديدة، أو كصراع عسكري جديد على وزن الأميركي في العراق.
أحمدي نجاد وبوش... رجلا المرحلة
لم تكن الولايات المتحدة الأميركية تحتاج إلى رئيس أكثر ملائمة ممن اختاره الشعب الإيراني بنفسه في الانتخابات الإيرانية الأخيرة. إن خيار الإيرانيين الأخير عبر صعود "أحمدي نجاد" رئيسا لإيران خلال هذه الفترة تحديدا، يعتبر أفضل الفرص السانحة للأميركيين للتعامل مع الملف النووي والسياسي الإيراني.
لم تكن الولايات المتحدة قادرة على التعامل بإيجابية مع السياسي المثقف "خاتمي"، كان خاتمي رئيسا مشلولا، لا يمتلك من القرار السياسي الإيراني أكثر من بعض التذمرات بين التي يدعمها فيها المرشد السياسي "خامنئي" حين يضيق ذرعا بسلسلة المجالس السياسية القابضة والمقوضة لسلطة خاتمي.
لم تكن الدعاية الأميركية قادرة على توصيف صاحب نظرية حوار الحضارات بالدكتاتور، أو بالقامع لحرية الشعب الإيراني. ولم يكن خاتمي فعلا "رجل صراع"، بل كان رجل "المصالحات المثالي"، إلا أن البيئة السياسية الإيرانية لم تمكن خاتمي من النجاح في تجربته.
سقوط الخاتمية
اليوم، سقطت الخاتمية، وسقط المراهنون عليها، في مشهد جنائزي "كوميدي". جنائزي، لكون النظام السياسي الإيراني على رغم "حداثته" نسبيا، لم يستطع ان يخدم تيار الإصلاحيين في أن ينجزوا تجربة سياسية متكاملة، أو على الأقل "مقنعة" للإيرانيين، أخفق خاتمي ورفاقه في الخروج من شعارات الإصلاح إلى الواقع السياسي والتنموي، لذلك كان خاتمي مقنع الحديث، لكنه لم يستطع صناعة خطابه واقعا سياسيا اقتصاديا معاش.
وللمشهد كوميديته، إذ إن أكثر الآراء خبرة بالشأن الإيراني لم تتنبه إلى حقيقة المشابهة الاجتماعية والتاريخية بين الانتخابات الإيرانية والأميركية على حد سواء خلال هذا العام. الإيرانيون كانوا يريدون رجل مرحلة صارم، لم تعد سلسلة الترف الثقافي الخاتمية تعجبهم، إذ إنها لم تغير من واقعهم أي شيء.
لم يكن اختيار أحمدي نجاد لأنه فقط لمس احتياجات الشارع، أو لأنه دعا إلى محاربة الفقر والفساد فقط "كما عبر عن ذلك السفير الإيراني في البحرين". بل إن العملية أكثر تعقيدا.
أحمدي نجاد رجل أسمع الإيرانيين خطاب حسم وقطع وتحديد، أكثر منه خطاب وعود وعهود كما كانت خطابات "الشيخ كروبي ورفقاه". وكذلك كانت محصلة الانتخابات الأميركية، الأميركيون بدا لهم بوش "الحاسم"، أكثر إقناعا من كيري "السياسي الهادئ المتأرجح"، أو "الهارب من فيتنام".
أصوليتان متضادتان
اليوم، واشنطن وطهران، أصوليتان دينيتان في صراع ضد بعضهما بعضا، لذلك لابد أن يطل علينا الفصل الأخير من مسرحية "البعبع الإيراني الأميركي". الظاهر لي، هو أن الفصل الأخير من هذا الصراع سيكون على خلاف ما ترجح بعض القراءات الذاهبة إلى التهويل والتحذير من صراع عنيف تتشكل ملامحه يوما بعد يوم. بل أعتقد أنه في الغالب سيكون باردا تصالحيا.
لن يكون أحمدي نجاد في ختام المعركة رجل عصابات يعتقل من إحدى حفر طهران "تحت الأرض"، بل لعل السنوات المقبلة قد تحمل أول مصافحة بين رئيس أميركي وإيراني منذ قيام ثورة إيران على يد الخميني الراحل. قد تحمل الفترة الأولية خطابا إعلاميا متصاعدا بين طهران وواشنطن، وهو أمر طبيعي ومتوقع. إلا أن نموذجا نوويا إسلاميا أصبح وشيك الحدوث، وأقرب الصور التي تدور بمخيلتي هي قيام "إيران نووية" على شاكلة مقاربة من "باكستان النووية".
يبقى الملف الأكثر تعقيدا هو تلك العلاقة التاريخية بين دمشق وطهران، بالإضافة إلى الدعم المعلن لـ "حزب الله" اللبناني، أبرز الملفات وأعقدها في تسوية العداء الإيراني الأميركي، الولايات المتحدة مقتنعة بالكامل بأنها لا يمكن أن تحصل على منطقة شرق أوسط "آمنة"، دون تسوية الملف الإيراني.
إيران كذلك، خلال السنوات الماضية، برهنت على أن خياراتها بدأت تنفك من عقدة "الثورة" و"تصدير الثورة"، ما أتاح لها خلال الفترة الماضية تنمية علاقاتها الآسيوية والعربية والخليجية والأوروبية بشكل مميز، الدبلوماسية الإيرانية اتسمت بالقوة والحنكة في مراحلها كافة، وهي خلال هذه الفترة تخوض أصعب التحديات. الدبلوماسية الإيرانية لا يمكن أن تتوقع سكوتا أميركيا وإسرائيليا عن البرنامج النووي الإيراني أكثر مما كان، وهي اليوم مطالبة بحسم الأمر، ولعل أحمدي نجاد، سيخلد اسمه كرجل المرحلة السياسية، أكثر من يلعب دور الرئيس الإنسان المتفاني في خدمة الفقراء والمحرومين، وإن نجح في كلا الخيارين، فهو من دون شك، سيتحصل على ولاية رئاسية ثانية
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 1050 - الخميس 21 يوليو 2005م الموافق 14 جمادى الآخرة 1426هـ