العدد 1049 - الأربعاء 20 يوليو 2005م الموافق 13 جمادى الآخرة 1426هـ

حجر الأساس

قصة قصيرة - حسن الصحاف 

تحديث: 12 مايو 2017

شاع بين الحمير المنهوكة القوى بعد يوم طويل عسير خبر مفاده: أن الموقف المخصص لها منذ غابر الزمان في وسط المدينة سيحول إلى عمارة اسمنتية متعددة الأدوار، رخامية الواجهة، ذات مداخل مؤتمته كبيرة وكثيرة، وهي تخص مؤسسة بشرية غير ربحية مهمتها خدمة بني الإنسان والرقي به؛ وانه في يوم من أيام الشهر الجاري سيقوم أحد كبار المسئولين في الدولة بوضع حجر الأساس لهذا المشروع الحضاري المزمع إنشاؤه. عمت الفوضى بين الحمير جميعا منذ اللحظة التي سمعوا فيها خبر حجر الأساس. بدوا منزعجين جدا لكل من رءاهم أو وقع بصره عليهم من بعيد. كانوا سريعي الحركة وبشكل فوضوي يتناطحون برؤوسهم وينهقون بين اللحظة والأخرى نهيقا بدا فيه شيء من الأسى والحزن؛ ينهقون نهيقا عاليا معبرين من خلاله عن اعتراضهم وحزنهم لما سيئول له الموقف الذي اعتادوا عليه لسنوات طوال واعتاد على وقع حوافرهم وبصماتها؛ كما بدوا منهمكين في التفكير في البحث عن حل لهذه المعضلة والتدبر بشأن موقف جديد يلم شملهم ينتقلون إليه من دون إحداث ضجة. وبين ما هم على هذه الحال فكروا كذلك بالماضي التليد الذي يربطهم بهذا الموقف والتراث الغني والحكايات الكثيرة التي عاشوها فيه وفكروا في من مات أو قتل على رقعته الصغيرة نتيجة حادثة أو نتيجة تعذيب أو بحال طبيعية.

كان بين الحمير حمير لا تحفل بما يدور في عقول بني الإنسان على الإطلاق أو ما يسمعونه عن مشروعاتهم المستقبلية البنائية أو الفكرية لذلك قام بعض منهم بتهدئة الحمير المنزعجة والعمل على تخفيف حدة روعهم شارحة لهم تارة بأن وضع حجر الأساس في مكان ما في حقيقة الأمر لا يعني على الإطلاق في عرف البشر تجسد المشروع على أرض الواقع أيا كان نوعه، حضاري أم غير حضاري، وأن هذا الخبر لا يعدو عن كونه نوعا من أنواع الخدع التي يستخدمونها في العادة لخداع بعضهم بعضا تارة ولتهدئة الأوضاع الاجتماعية والسياسية تارة أخرى إذا ما كانت تلك الجماعة البشرية تعيش حالا من الفوضى العارمة تارة أخرى، وهو بالضبط ما هو حاصل الآن في هذا المجتمع الإنساني الذي نعيش في كنفه؛ بعضهم الآخر قال إن حجر الأساس لا يعدو عن كونه في حقيقة الأمر مقياسا لجس نبض الشارع والمجتمع إذا ما كان يوافق على قيام مثل هذه المشروعات أم لا. المهم في الأمر بثت هذه الجماعة من الحمير بشتى وسائلها المتاحة بين بقية الحمير فكرة مفادها: أنه يجب، بل يفترض منها ألا تفعل شيئا الآن سوى بث الرعب في قلوب البشر حتى يعترضوا على واضعي الخطط التخطيطية المستقبلية للمدينة بأن الموقع غير صالح لمثل هكذا مشروع حضاري وأن الحمير أحق بهذا الموقع لكونه يوفر لها بعض الدفء في الشتاء القارص البرودة وبعض الظل في الصيف المتوهجة والحارقة شمسه طوال اليوم إلى جانب ذلك فهذا الموقف يوفر لها الحماية عندما تهب العواصف الشتوية من كل مكان وانه يحميها من جنوح البشر يوم تغضب وتفقد صوابها وطريق رشادها.

مضى بعض الوقت على نقاش الحمير بشأن الموضوع والحال على ما هو، فحسب الجميع أن البشر عدلوا عنه ففرحوا ولكن يا فرحة ما تمت؛ ففي يوم وقفت الشمس في مكانها وتسمرت أشعتها كلها نحو الموقف الحميري كأنها كشافات اصطناعية في الوقت الذي كانوا فيه جميعا منخرطين في فرحتهم بشأن العدول عن المشروع وفي نقاشهم الذي لم ينته إلى نتيجة بشأن أهميته أو عدمها إذا بجماعة من البشر تتطاير عليهم الأضواء الاصطناعية من كل حدب وصوب وكأن أشعة الشمس ليست كافية لإبرازهم وإظهار أجسادهم المتكرشة ووجوههم وأوداجهم المنتفخة وأصوات الموسيقى الصاخبة والأهازيج والروائح الزكية ترافقهم في كل خطوة يخطونها تقف فجأة عند الموقف الحميري وبحوزتها حجر كبير وبعض أدوات الحفر والبناء. توقفت الموسيقى فجأة وقام أحدهم وخطب خطبة عصماء طويلة ثم شمر بعض الأفراد عن سواعدهم وباشروا العمل. وضع حجر الأساس في الموقف الحميري وكان حجرا صلبا نظيفا لامعا ثم دوى تصفيق حار اصطكت له آذان الحمير جميعا واعتبروه ضجيجا مزعجا ونشازا، كما أنهم انزعجوا أيما انزعاج من مشاركة الحمارة في التصفيق وتناولهم بعضا من ما وزع بينهم من حلوى ومشروبات. غادر الرجال وغادر معهم صخبهم وضجيجهم وما بقي بعد ذلك سوى حجر الأساس تتجمع حوله مخلفات الاحتفال من صحون وكؤوس ومحارم ورقية والحمير تحدق فيه.

دارت الأيام والحمير تحدق في حجر الأساس منتصبا كأنه مسلة فرعونية من بعيد لا تقترب منه أبدا. وكانوا جميعا يتحسرون على الموقع وكأنه ذهب إلى غير عودة ولاموا أكثر ما لاموا تلك الحمير التي أكدت لهم أن البشر لا يصدقون فيما يقولون وأن خطة تحويل الموقف الحميري إلى عمارة ما هي سوى حلم ليلة صيف.

وفي يوم من الأيام التي تتلاعب فيها هبات النسيم العليل بأذناب الحمير وأذنابها جاء إلى الموقع حمار وحمار جدد وكانا لا يعرفان البتة بأمر حجر الأساس شيئا. نظرا حولهما فلم يجدا من متسع لهما بين الحمير في زاويتهم الجديدة التي اختاروها، فاقترب الحمار من حجر الأساس ووضع علف حماره عليه ومن ثم ربط حماره به وجلس بعيدا ينظر ويتأمل في الحجر وحماره.

نظر جميع الحمارة الذين شاركوا في احتفال وضع حجر الأساس وجميع الحمير الذين كانوا موجودين ومعترضين عليه إلى الحمار والحمار الجديدين بعين الحسد، لكونهما تجرءا ولم يأبها بالحجر أو أصحابه ومنذ تلك الساعة تحولت المقولة "المعرفة قوة" بقدرة قادر إلى "الجهل قوة" ونقشها حمار فطين بحافره في زاوية من زوايا حجر الأساس لا ترى بالعين المجردة.

في اليوم التالي وبعد أن فعل الحمار الغريب فعلته في موقع حجر الأساس أتى كلب ضال ورفع رجله اليسرى وفعل فعلته أيضا ومضى ثم تجرأت حيوانات كثيرة على فعل فعلتها هناك وتمضي، ما جلب الذباب وحشرات أخرى كثيرة نتيجة الروائح النتنة التي انتشرت هناك.

بقي حجر الأساس مربطا ومعلفا للحمير الجدد ولبعض الكلاب الضالة وللحشرات من كل نوع غالبيتهم من الذباب إلى ما لا نهاية غير أن الوضع تغير بعض الشيء مع بعض الحمير القدامى، إذ تجرأ بعض منهم والتصق بحجر الأساس وحك جلده به مرارا، ما نتج عن هذا الحك أن زاد تكرار مقولة "الجهل قوة" وازداد وضوحها؛ حمير أخرى كانت أكثر جرأة، إذ فعلت فعلتها المعتادة من دون خوف. بقي أمر آخر ملفت للنظر وهو بقاء بعض من الحمير تعيش حالا من الحزن لم يعرف حتى اليوم ما سببه ولم تقرب حجر الأساس أب





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً