العمل أو الكتابة في العام يفترض توافر درجة عالية من "الإحساس العام". البعض يسميها "كياسة"، والبعض يسميها "لباقة"، والبعض يسميها "ذكاء عاما"، لكن العامل المشترك فيها جميعا هو: ضرورة معرفة المجتمع الذي تعيش فيه. من هنا إذا فقد البعض بوصلته "الاجتماعية" تاه عن القصد وأخذ يتخبط، فيخرج من ورطة ويسقط في أخرى.
في هذا السياق يمكن تقييم الكثير مما يكتب في صحافتنا المحلية، مما يفتقر إلى الكثير من الكياسة واللباقة والذكاء العام. فمن السهل أن تقف لتلعن الناس الغاضبين على من تعدى على مقدساتهم وشخصياتهم المحترمة لديهم وتزور القضية باسم "حرية التعبير". ومن السهل أيضا أن تدين الجياع المطالبين بحقوقهم وترميهم بالصفات التي لا تقبلها لنفسك، فلو كنت مهمشا في بلدك محروما عن كسب رزقك، فهل كنت ستجلس في بيتك تنتظر الصدقات من الناس؟
إصدار بيانات الإدانة واستنفار "أقلام الموالاة" و"تجييش" الأندية بهذه الصورة ونشر الإعلانات المدفوعة الثمن لن يحل واحدة من أعقد المشكلات في البلد. نحن لدينا 20 ألف عاطل عن العمل، واحمدوا الله أن الذين يعلنون احتجاجهم حتى الآن مازالوا فئة محدودة منهم، فماذا لو تجمع هذا الجيش في مكان واحد حتى لو كان في رأس البر للمطالبة بحل مشكلته في التوظيف؟
العاطلون اليوم قطاع كبير من الفئة الشبابية، التي تجد الأبواب موصدة أمامها للعمل في بناء وطنها، وبدل سماع صوتها والسعي الجدي لحلها، نراها تواجه بالتهميش وتضرب بالهراوات في الشوارع العامة. ثم يأتي الكتاب "المتفرغون" ليلعنوا آباءها وأجدادها من قديم الزمان!
في العالم الثالث، ونحن منه في العمق، من السهل أن تكون انتهازيا فتزايد على الآخرين في ولائهم للوطن، كأن الولاء ثوب تشتريه لنفسك بمقال، وتنزعه عمن تشاء بمقال آخر!
في الأوطان المتخلفة، من السهل أن تغازل المتنفذين من أصحاب الجدران العازلة وتدافع عن تجاوزاتهم على القانون العام، وعن أصحاب الفنادق غير النظيفة و"الشقق المفروشة" المشبوهة، وتحاول استرضاء الطبقات الطفيلية التي تعيش على حساب الوطن، ثم توزع البطولة على من تشاء وتنزعها عمن تشاء. لكن من الصعب أن تقول كلمة الحق وتواجه المخطئ بخطئه، وتعارض المخالف للقانون ليقف عند حده من أجل مصلحة الوطن.
نماذج تنقصها اللباقة والكياسة والإحساس العام، يعرفها جيدا شعب البحرين، الذي كثيرا ما خذله بعض المحسوبين على النخبة "المثقفة"، التي تركض إلى الغنائم أسرع من ركض النعام.
وما ينطبق على الكتاب والصحافيين وحملة القلم، ينطبق على بعض نواب البرلمان. والكلمة في تقييم هؤلاء للشعب الذي يرى ويسمع و"يشم" الروائح على بعد عشرة كيلومترات، بدءا من علاوة المكتب وانتهاء ببدعة "المكافأة الشهرية"! وبعضهم "يزعل" إذا كتبت عنه الصحافة التي تحترم نفسها وقارئها فيتصل شاكيا متبرما لكي يقطعوا له رقبة الصحافي الأثيم!
على أن المكافآت والعلاوات والزيادات والسيارات، ليست إلا غنائم "صغيرة" يمكن أن ينساها الناس لكثرة ما يحدث في البلد من تعديات على المال العام، وبأغطية شرعية أو غير شرعية، لكن ما لن ينساه الناس هو تمريرهم لقانون الجمعيات بأسوأ صوره، وما سيصوتون عليه اليوم "الثلثاء" من قانون "التجمعات" لتمريره، بعد حذف كلمة واحدة كانت ستسبب لهم الكثير من "وجع الرأس". ونحمد الله أن هذه الكلمة "المواكب" كانت سببا في تأجيل إقراره مؤقتا، ما أتاح الفرصة للجمعيات وأصحاب الرأي والمهتمين بالرأي العام طرح وجهة نظرهم وكشف ما فيه من إشكالات ومؤاخذات.
في البداية حاول البعض الدفاع عن إقحام كلمة "المواكب" في القانون، مع أن إقحامها من الأساس يدل على الافتقار إلى الكثير من اللباقة والكياسة والذكاء العام، كأن صاحبه عاش في موسكو ولم يعش في البحرين ويعرف خصوصية مجتمعها وتركيبته الاجتماعية.
البلاد حين كانت ترزح تحت وطأة قانون "أمن الدولة" الفظيع، لم يفكر أحد بفرض الشروط والقيود على المواكب الدينية الخاصة، ولو حاول لما أطاعه أحد، فما بال أفراد في لجنة تابعة لبرلمان مشغول بالغنائم الخاصة، تمد أعناقها إلى نسف أركان الوطن؟
كتاب، صحافيون، نواب لا يرون إلا بعين واحدة، ما أحسن تصوير المفكر الشهيد علي شريعتي، حين وصف أمثالهم: "أحسنتم مناطحة الجدار"
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1047 - الإثنين 18 يوليو 2005م الموافق 11 جمادى الآخرة 1426هـ