في بداية عمل البرلمان، اتصل أحد الزملاء ببعض النواب يسألهم عن برامجهم، فلم يحصل منهم على طائل، فصاحب الجعبة الفارغة لن يخرج لك منها تفاحة ولا بطيخة ولا حتى حزمة برسيم! مع ذلك لم ييأس صاحبنا، فأعاد المحاولة وهو يمني النفس بالحصول ولو على حبة شعير! فعاد يسأل أحدهم: ما هو برنامج كتلتكم؟ ولأن النائب لم يكن قد سمع في حياته بكلمة "كتلة"، ولم يكن يدرك ما تعنيه في العمل البرلماني، فإنه رد غاضبا: "أعوذ بالله منك ومن شرك! تريد أن تثير الفتنة بيننا! نحن في المجلس لا توجد بيننا تكتلات، كلنا كتلة واحدة"! وكنا بين فترة وأخرى نتداول هذه النكتة، كلما وقع ذلك النائب المسكين أو أمثاله في ورطة، من فلتات اللسان أو زلات الجنان! كما كنا نستشهد بها على حداثة التجربة وانعدام الخبرة في هذا المجال، في بلد خرج من تجربة "قانون أمن الدولة" منهكا مثقلا بالأعباء السياسية، ليدخل تجربة جديدة كان يعلق عليها الناس الكثير من الآمال.
واقع الحال، ان هذه الآمال أجهضت للأسف الشديد، ورضي البرلمان بـ "كتله" الحالية، أن يكون "كتلة واحدة" في التصويت على مشروعات قوانين تصادر الحريات وتمنع التجمعات، وكأن هذا البلد تنقصه حزمة القوانين المكممة للأفواه والمقيدة للحريات، "بعد أن شبعنا من الحرية" كما قال أحد السفهاء. فهذا القاصر يتصور أن الحرية علبة كولا، يشربها في دقيقة واحدة ثم يقذف بها من نافذة سيارته عند أول منعطف! كتابات "طفولية" لم تشب عن طوق العبودية شيئا، ولا يمكن أن يتصور أصحابها العبيد أن تكون الحرية منهاج حياة، وخيارا لا رجعة فيه، ولا يصل إلى خيالهم أنه لا توجد "منطقة وسطى" بين الحرية والاستعباد. وهذه مفاهيم انتهت إليها البشرية كلها، واعتمدتها الأمم المتحضرة لتسيير شئونها وتنظيم حياتها على أسس من العدل والمساواة وتجريم التمييز بين الناس، وسيادة القانون على الجميع، بعد تجارب طويلة من الألم والمعاناة والحروب والنزاعات.
والمؤسف ان يتم "توريط" البرلمان الحالي - على علاته - في الدفع باتجاه المزيد من الاحتقان، بوضعه وجها لوجه مع الطموحات والتطلعات الشعبية الطامحة في مزيد من الانفتاح والإصلاح الحقيقي وتغيير الأوضاع نحو الأفضل. والمؤسف أكثر أن يقبل أعضاء البرلمان بهذا "التوريط" والاستخدام، فالمرجح حين كتابة هذا المقال، أن تسفر جلسة البرلمان التي تجرى في هذا الوقت، عن تمرير قانون "التجمعات"، بعد تمرير قانون "الجمعيات".
ومهما يكن من أمر، لن يكون ذلك خطوة تخدم "الإصلاح"، ولن تصب في مصلحة البلد ومستقبل الأجيال. والخشية كل الخشية أن تسهم في صب المزيد من الزيت على النار. يحدث ذلك في وقت فقد فيه الجزء الأكبر من الشارع ثقته بالموجود، و"كفر" بالتجربة، وهو ما عبر عنه رئيس جمعية الوفاق الشيخ علي سلمان بكلمات موجزة: "لقد كسرت الحكومة مجاديف الجميع". وهي كلمات يدرك مغزاها المواطن من دون حجاب، لأنه استلهمها بذكاء من بيئته ومحيطه القريب. لكن هذا الذكاء يخون بعض النواب، الذين يقايضون مصالح الشعب العليا بضمان مصالحهم الخاصة، فيستقتلون في سبيل الحصول على معاش التقاعد، ويمررون لأنفسهم بدعة "المكافأة الشهرية" على رغم رفض لجنة الشئون المالية والاقتصادية، وهي إحدى الخطايا الكبرى التي لن ينساها الناس أبدا لأعضاء البرلمان الحالي.
على أن الأخطر من حديث المال والتقاعد و"بدعة" المكافأة الشهرية، تورطهم في مستنقع التضييق على الناس، وقضم ما تبقى من حريات، عبر هذه القوانين المتخلفة غير الشعبية، التي تفوح منها رائحة الاستعباد، والتي ينقصها الكثير من الكياسة والدهاء.
البحرين اليوم، وهي تعيش هذا الجو المحتقن، ليست بحاجة إلى حزمة قوانين، فالقوانين السابقة لم يكن ينقصها العنف والتضييق وملاحقة الناس في نواياهم ومحاسبتهم على أفكارهم، مع ذلك رفضها الشعب لمدة ثلاثين عاما حتى تم تجميدها في مشرحة "الإصلاح"، ومن أسف أن يتطوع المجلس لنفخ الروح فيها من جديد.
قبل ثلاثة أعوام، طمح زميلنا في الحصول على حبة شعير بعد أن أعيته السبل في الحصول على تفاحة من البرلمان، ولم يعد اليوم يسأل عن برنامج كتلتهم، فكلهم كتلة واحدة، كما قال النائب المبرور "فنحن في المجلس لا توجد بيننا تكتلات... أعوذ بالله منك ومن شرك! تريد أن تثير الفتنة بيننا"
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1046 - الأحد 17 يوليو 2005م الموافق 10 جمادى الآخرة 1426هـ