كيف ستتعامل الحكومة البريطانية مع المجموعات المسلمة بعد يوم التفجيرات الذي هز لندن؟ السؤال طرحته مختلف الهيئات السياسية والأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني. وجاءت الردود مختلفة سواء في تلك التصريحات أو المقالات أو التعليقات التي صدرت في الصحف ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية أو تلك الإجراءات الميدانية التي اتخذت لمنع تكرار هذا الفعل الشنيع.
حتى الآن تعاملت الحكومة بأسلوب حضاري مع تلك الجرائم وبذلت جهدها لاحتواء ردود الفعل وقطع الطريق على المنظمات العنصرية والأطراف المعادية للمسلمين. فالحكومة حاولت منذ الساعات الأولى الفصل بين الإسلام والمسلمين من جهة وأفعال المجموعات الإرهابية التي تعمل ضمن برنامج خاص بها. ونجحت عملية الفصل بين المسألتين في التخفيف من حدة الانفعالات وتهدئة الشارع والضغط على التيارات العنصرية التي استفادت من التفجيرات جاعلة منها مناسبة للتذكير باقتراحاتها المتشددة في التعامل مع المجموعات العرقية واللونية والدينية الموجودة في بريطانيا.
في كل الحالات شكلت التفجيرات ضربة لفكرة التسامح التي اشتهرت بها لندن وتميزت كمدينة متنوعة الثقافات والمذاهب عن غيرها من المدن الأوروبية. فهذه العاصمة كانت دائما مختلفة وذات نكهة خاصة الأمر الذي جعلها محط إعجاب كل التائقين للحرية. فهي الملجأ والملاذ الآمن لكل المضطهدين أو المطلوبين لأسباب سياسية.
الضربة كانت قاسية وموجعة لكل الهيئات التي تدافع عن خصوصية لندن وتحرص على تأكيد هويتها وتثبيت شخصيتها التقليدية. فكل المنظمات التي قاتلت لمنع لندن من الانزلاق وراء تلك التدابير الأمنية التي اعتمدتها فرنسا والولايات المتحدة منذ 11 سبتمبر/ أيلول 2001 أصبحت الآن في موقف حرج ولم تعد قادرة على الدفاع عن المدينة كما كان الأمر سابقا. فالضربة غيرت الكثير من الظروف وأسست لأجواء ربما تساعد تلك التيارات العنصرية على الضغط على الحكومة لتغيير تلك الهوية الحضارية والتعددية التي تميزت بها عاصمة بريطانيا.
هناك الآن الكثير من المخاوف من أن تلجأ حكومة بلير إلى اتخاذ تدابير أمنية جديدة قد تسهم في الحد من أجواء التسامح التي اشتهرت بها لندن. والمشكلة أن الحكومة مضطرة إلى اللجوء إلى مثل هذه السياسة لوقف موجة الانتقادات التي أطلقتها تيارات عنصرية وبعض الصحف الشعبية ضد المسلمين. فالحكومة لا تستطيع تجاهل تلك الأصوات التي أخذت من التفجيرات ذريعة سياسية لتمرير مشروعها القاضي بالحد من الانفتاح والتضييق على الأجانب وانتهاج التدابير الأمنية المتشددة التي اعتمدتها باريس وواشنطن في السنوات الأخيرة.
قاومت حكومة بلير الكثير من الضغوط في الماضي القريب ورفضت التجاوب مع طلبات الإدارة الأميركية في تبني تلك الإجراءات التي لجأت إليها الولايات المتحدة. ونجت لندن فعلا من الانزلاق وراء القوانين الصارمة التي اتخذها الرئيس جورج بوش.
الآن، كما تبدو الأمور، لم تعد حكومة بلير قادرة على الدفاع عن سياستها الرافضة. كذلك لم تعد في وضع يسمح لها بتبرير سلوكها السابق. لندن الآن دخلت فترة التغيير إلا أنها لن تتحول إلى مدينة تشبه تلك المدن الأوروبية والأميركية. ولكنها أيضا لن تبقى كما كانت في عهودها السابقة.
لندن بعد تفجيرات 7 يوليو/ تموز الجاري دخلت في طور التغيير. وكل المؤشرات السياسية ترجح تطور هذا الاحتمال. لندن الآن تغيرت ولم تعد تلك المدينة التي اكتسبت سمعة خاصة من بين عواصم العالم. فالتفجيرات التي اتهم بها شبان مسلمون شكلت مناسبة للبدء في اتخاذ خطوات عملية تحد من الحريات التي تميزت بها عن غيرها من مدن الغرب.
وبدءا من مطلع الأسبوع المقبل ستحصل مشاورات سياسية بين الحكومة العمالية وقادة أحزاب المعارضة لبحث الوسائل والإجراءات القانونية التي يتوقع في حال الاتفاق عليها أن تعطي صلاحيات استثنائية للشرطة لاتخاذ التدابير أو القيام بحملات دهم وتفتيش للبيوت والعائلات المشتبه فيها.
هذه الإجراءات القانونية تتطلب موافقة البرلمان ويرجح أن تتفق الكتل السياسية الأساسية على تمريرها بسرعة لتسهيل مهمات الأجهزة والهيئات الأمنية التي تلاحق أو تحقق في مختلف الاحتمالات أو تلك الجهات المتهمة بالضلوع أو بتسهيل أو بالتخطيط للتفجيرات.
لندن عمليا تغيرت بعد السابع من يوليو، وتنتظر الحكومة تلك الخطوات القانونية لإضفاء شرعية على الإجراءات المتوقع الإقدام عليها في مراقبة أو ملاحقة كل الفئات التي تصنفها الهيئات السياسية أو تشك في وجود اتصالات مشبوهة بينها وبين منظمات تخطط لمثل تلك العمليات التي شهدتها لندن.
هناك الكثير من المخاوف من أن تنزلق لندن نحو اتخاذ إجراءات أمنية صارمة تشبه تلك التدابير التي لجأت إليها فرنسا والولايات المتحدة. وبسبب وجود مثل هذا الاحتمال الذي ارتفعت أسهمه كثيرا، حذرت منظمات المجتمع المدني من اللجوء إلى العقاب الجماعي أو التعامل مع الأجانب بروحية الشك والظن بكل الناس.
المخاوف كثيرة وخصوصا أن المتهمين بالتفجيرات ينتمون إلى فئات متعلمة وتتمتع بثقافة عالية وتجيد اللغة الإنجليزية وتحمل الهوية البريطانية. وهذا الجديد في الموضوع أسهم في توسيع دائرة المراقبة. فقبل التفجيرات كانت الظنون تتركز على فئات العاطلين عن العمل أو المتدينين أو الملتزمين. أما الآن فإن الشكوك اتسعت وبدأت دائرة الظن تشمل كل الجاليات الملونة ومختلف الأجانب وكل الجاليات المسلمة من دون تمييز في درجات الالتزام الديني أو في درجات العلم. فالمتعلم والأمي وأستاذ الجامعة والطالب الجامعي والمتجنس أو المولود في بريطانيا دخلوا الآن في دائرة الشك والمراقبة حتى تلك الفئات العلمانية وغير الملتزمة بتعاليم الإسلام.
هذا الجديد سيكون محط نقاش واسع بين الأحزاب البريطانية في الأسبوع المقبل لدراسته من مختلف الجوانب قبل اتخاذ الإجراءات القانونية التي تعطي صلاحيات للشرطة في المداهمات والملاحقات والمراقبة. ويرجح أن تتفق كل الجهات على اتخاذ خطوة في سياق التغيير الذي تحذر منه منظمات المجتمع المدني.
لندن تغيرت بعد ضربة 7 يوليو ولم تعد المدينة كما كانت في عهودها السابقة. إلا أن المدينة ستبقى أفضل من غيرها مهما اتخذت من إجراءات لحماية سمعتها التقليدية وتحصين موقعها الذي اهتز في العمق بعد حملة التفجيرات المشؤمة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1046 - الأحد 17 يوليو 2005م الموافق 10 جمادى الآخرة 1426هـ