قبل عدة أسابيع، كتب الزميل عباس بوصفوان مقالا تحليليا عن مجلس النواب، وتعرض إلى كتلة ما يسمى بـ "المستقلين"، مع ذكر أسماء أعضائها. وأذكر ما وصفهم به حينها من "أنهم حكوميون أكثر من الحكومة"، حتى أني راجعته في ذلك قبل النشر فقال بابتسامة تحمل كل معاني الجدية والإصرار: "هذا هو واقعهم يا أخي". واحترمت رأيه، معترفا بأنه أكثر معرفة وخبرة بالمجلس مني، ففيما كنت أراقب الوضع من بعيد دون الدخول في التفاصيل، كان الزميل يغوص في أعماقه ويعرف الكثير مما يجري وراء الكواليس. ولكن "الجماعة" بعد نشر المقال أوجعوا رأسه من الإتصالات ذلك اليوم احتجاجا على ما كتبه: "شلون يا عباس توصفنا حكوميين أكثر من الحكومة... ما يجوز يا ريال"! ولم يبق إلا أن يرفعوا عليه قضية أمام النيابة العامة، التي أصبحت ملجأ لكل من لا يتحمل ذرة من الانتقاد وحتى التوصيف الموضوعي الدقيق لواقع الحال!
لذلك عندما قرأت في وقت متأخر من ليل الأربعاء الماضي خبرا عن "تمرير" مشروع قانون التجمعات تحت جنح الظلام، رفعت سماعة الهاتف لأسأله عن هذه الفاجعة، من باب التأكد من خلفية من يقف وراءها: من يكون هؤلاء "المستقلون"؟ تجار أم أصحاب استثمارات ومصانع؟ فضحك بوصفوان وقال بلهجته المحرقية الشعبية: "أي تجار ياخوك... كلهم مشدخين"! فرددت عليه مستغربا: "امشدخين ومسوين روحهم حكوميين أكثر من وزارة الداخلية؟" أليست هذه هي قمة المأساة؟!
على أن قمة المهزلة، من الجانب الآخر، هذا التحول "الدراماتيكي" في أداء المجلس، ركضا وراء إصدار قانون مرفوض شعبيا، تفوح منه روائح الكبت والقمع والتنكيل، والأخذ بالظنة والسجن 21 عاما بالشبهة، والإدانة بالرائحة، حتى بتنا نتساءل: ما الفرق بينه وبين "أمن الدولة"؟ أفتونا يا "فقهاء" الأمن والدفاع والأمن الوطني "المستقلون"!
ولأول مرة في تاريخ العالم، ستصدمنا هذه المفارقة المرعبة: البرلمان الذي يفترض أن يكون قلعة للدفاع عن حقوق الشعب وتحقيق مطالبه وسعادته، نراه يتحول إلى مطبخ للاحتقان الأمني والتأجيج الطائفي للأسف الشديد، بفضل اندفاع بعض نوابه في طرق غير مأمونة، آخرها هذه الحركة لتمرير قانون اعترضت عليه غالبية الجمعيات السياسية والحقوقية البارزة على ساحة العمل الوطني.
إن أكبر خطيئة يرتكبها المجلس اليوم هو إقرار هذا القانون المشبوه الخارج من تحت عباءة "أمن الدولة"، مهما حاولوا تغطيته والتستر على عورته. وكل من يوافق عليه من النواب سيضع نفسه موضع مساءلة أمام الشعب، ليسجل في خانة من خذلوه، بالتصويت على قانون أقل ما يقال فيه فعلا انه "قانون رجعي بامتياز".
ومن العار أن تكون برلمانات العالم قلاعا للدفاع عن حرية الشعوب ومصالحها وأمنها، ويتحول البرلمان في هذا الوطن إلى ساحة لاقتناص الغنائم الشخصية والفئوية والطائفية، وكل ذلك على حساب الوطن ومستقبل المواطن.
إن البرلمان اليوم أمام مفترق طرق مصيري، بعد أن خذله من يسمون "مستقلين": أما أن يختار طريق حماية مصالح الشعب ومستقبله وصيانة حريته، وأما أن يعيد لهذا الوطن المنكوب جثة "قانون أمن الدولة" بعد أن تم تجميدها في مشرحة "الإصلاح" منذ ثلاثة أعوام.
أيها النواب المجتمعون اليوم: الشعب سينسى عجزكم عن إصدار قانون واحد طوال ثلاثة أعوام، وسينسى عجزكم عن انتزاع "بونس" تافه للمواطنين بعد أن مرغت كرامة البحريني في التراب بسبب "طرارتكم"، وسينسى تكالبكم على المغانم الصغيرة التي جمعتموها على ظهره وبعنوان تمثيل "الشعب"، لكنه لن يغفر لكم أبدا "شرعنة" قانون القمع وإعادته من جديد. وثقوا أن كل سجين أو شهيد أو منفي أو مشرد من أبناء هذا الوطن لا سمح الله، في المستقبل، ستكونون أنتم عنوان بلائه إذا مررتم هذا القانون الجائر. الشعب يريدكم رجالا أحرارا، فهل ستتمردون على قوانين العبيد؟ استفرغنا وسعنا في نصحكم، بلاغا... فهل يهلك إلا القوم الظالمون؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1045 - السبت 16 يوليو 2005م الموافق 09 جمادى الآخرة 1426هـ