ألقى سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين "ع" في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات الدينية والسياسية والاجتماعية، وجمهور غفير من المؤمنين. .. ومما جاء في الخطبة السياسية:
في فلسطين المحتلة يبقى اليهود في تنفيذ خطة استفزاز أمني عدواني، في عملية عقاب جماعي في إغلاق المدن، وإقامة الحواجز، واغتيال الشباب، وقتل الأطفال، واعتقال المجاهدين، حتى إذا قام الفلسطينيون بالرد على تلك الممارسات، كما حدث في العملية الاستشهادية في ناتانيا، تحركوا للمناداة بالثبور وعظائم الأمور في الشكوى من الإرهاب، كما يسمونه.
وتحركت أميركا وأوروبا والأمم المتحدة لإصدار بيانات الاستنكار، من دون أي موقف احتجاجي على العدوان الإسرائيلي الوحشي، وخصوصا في عزل القدس من خلال جدار الفصل مما يؤدي الى عزل 55 ألف مقدسي بسبب ذلك، في الوقت الذي استطاع فيه العدو إقناع العالم المستكبر بأن الانسحاب من غزة هو التطور السياسي الذي لا بد أن يلاقي الدعم، بما فيه الدعم المالي في مطالبته أميركا بدفع ملياري دولار لتغطية مصاريف الانسحاب، وينال التأييد العالمي في الوقت الذي يخطط فيه للاستيلاء على الضفة الغربية والقدس من خلال المستوطنات الكبرى والجدار الفاصل، بما يعطل مشروع أية دولة فلسطينية قابلة للحياة مما يبشر به بوش الذي لم يتحرك خطوة واحدة في تحقيقها في الواقع من خلال الضغط على "إسرائيل"، بل إنه - بالعكس من ذلك - أعطى الشرعية لضم المستوطنات الكبرى الى الدولة العبرية، وألغى حق العودة للفلسطينيين، وأبقى المشروع الإسرائيلي المتحرك للجدار الفاصل، وتابع الضغط على الفلسطينيين باتهام الفصائل بالإرهاب، ولم يمنح السلطة الفلسطينية إلا الكلمات المعسولة التي لا معنى لها.
وتبقى الدول العربية - ومعها أكثر الدول الإسلامية - في خطة انسحاب من القضية الفلسطينية، بسبب الخضوع للضغط الأميركي الذي يرتجف منه الحكام من المحيط الى الخليج، ولا حديث لهم إلا عن الإرهاب الذي صرح رئيس وزراء بريطانيا بأن بقاء المشكلة الفلسطينية هي إحدى الأسباب في استمراره وخطورته.
إننا نحيي صمود الشعب الفلسطيني الذي لم يخضع للضغط الإسرائيلي والدولي، ولم يخدع بالتحركات العربية لتطويقه، ونريد لـه أن يبقى في خط الوحدة الداخلية وأن يحافظ عليها، وأن لا يستدرج الى ما تريده أميركا و"إسرائيل" من الوقوع في فخ المشكلات الداخلية، كما نريد لـه أن يبقى محافظا على نهج المقاومة لأنه الخط الوحيد الذي يحفظ للقضية امتدادها واستمرارها في نهاية المطاف، وإبقاء المأزق السياسي والأمني للعدو وحلفائه، من أجل تحقيق الانتصار النهائي في التحرير للشعب الفلسطيني.
أما العراق، فلا يزال يعيش المأساة الدامية بأفظع صورها، بفعل التداعيات الوحشية التي صنعها مناخ الاحتلال، إذ ينتقل من مجزرة الى مجزرة، وقد شهدت بغداد مجزرة جديدة مروعة كان ضحاياها من الأطفال، إذ قتل 33 منهم وجرح أكثر من 30 بسيارة مفخخة قادها انتحاري وحشي مجنون، بالإضافة الى العشرات من القتلى والجرحى من المدنيين في أكثر من موقع في العراق، من خلال الفئات التكفيرية الحاقدة التي تستهدف المسلمين الشيعة في كثير من البلدان، مستغلة شعار المقاومة من دون أي معنى، لأن المقاومة هي التي تواجه قوات الاحتلال لا المدنيين الأبرياء، وهي التي تهدف الى تحرير البلد لا الى قتل المواطنين تحت تأثير حقد طائفي مذهبي في ذهنية متخلفة لا تفهم القيمة الإسلامية ولا الوطنية، بل إنها تساهم في إبقاء الفوضى الأمنية التي تحقق للعدو الفرصة للإبقاء طويلا على احتلاله، وتمنع بناء الجيش العراقي وقوات الأمن الداخلي ليكون البديل عن قوات المحتل.
إن هذا المشهد الوحشي لا يدانيه مشهد مماثل إلا ذلك الذي تمثل في قصف الطائرات الأميركية للأعراس والتجماعات المدنية الشعبية في القرى الأفغانية، وقتلهم للأطفال والنساء والشيوخ بدم بارد، وهذا ما يؤكد أن ثمة شراكة في الوحشية والقتل بين مدرسة الإرهاب الأميركية ومدرسة الإرهاب التكفيرية.
إننا من موقعنا الإسلامي ندين الإرهاب بكل أنواعه في البلاد الإسلامية وفي كل بلاد العالم، ولذلك أنكرنا ما حدث من التفجيرات في بريطانيا، لأن الإرهاب في الاعتداء على المدنيين لا يمثل أية قيمة إسلامية، بل هو ضد الإسلام الذي يؤكد على احترام الشعوب الإسلامية، لأن الإسلام يحترم الإنسان كله.
وبهذه المناسبة، فإننا نرحب بما ورد في خطاب رئيس الوزراء البريطاني لجهة تبرئة الإسلام كدين، والمسلمين كأمة، ودعوته البريطانيين وغيرهم ألا يحملوا المسلمين المقيمين في الغرب مسئولية ما قام به الإرهابيون من التفجيرات الوحشية، كما أن تحليله للإرهاب ودعوته الى معالجته بمعالجة جذوره، كالفقر والحرمان وأزمة الشرق الأوسط، يدل على وعي للمسألة بشكل جيد، ونأمل أن يتعلم الرئيس بوش هذا الدرس من حليفه البريطاني.
ويبقى المشهد اللبناني الذي يخضع للتفجيرات المتنوعة التي تخلط الأوراق، وتصادر الكثير من التحليلات السياسية والأمنية في خلفياتها التي يتحرك بها السوق السياسي في عمليات التجاذب... وتتتابع ملامح الصورة في تعطيل الدولة المثقلة بالمشكلات الاقتصادية والمالية والأمنية، من خلال الصراع على الحصص لهذه الكتل أو تلك، من أجل مواقع الطوائف وامتيازات زعاماتها في طموحاتها المستقبلية، وفي لعبة النسب في حسابات الثلث هنا والثلثين هناك، بعيدا عن البرامج الإصلاحية التي يتمثل فيها الوعد بالمستقبل المقبل، بالإضافة الى التدخلات الدولية - ولا سيما الأميركية - التي تريد أن تحرك ضغوطها لأكثر من موقع في المنطقة من خلال لبنان، وفي جانب آخر يراد لعملاء "إسرائيل" أن يأخذوا البراءة من لبنان الجديد، في الوقت الذي كانوا فيه جنودا للدولة العبرية في احتلال وطنهم وفي قتل مواطنيهم.
إننا نريد للبنان الجديد أن يكون لبنان الحرية الذي يحتضن الأحرار، وأن يكون لبنان القرار المستقل الذي لا يخضع لأية وصاية دولية ولأية ضغوط أميركية أو أوروبية، في إضعاف موقعه في عملية صناعة القوة في خط التحرير... وعلينا أن نتذكر العهد الاستقلالي الأول أن لا يكون لبنان ممرا ولا مقرا للاستعمار وللنفوذ الدولي، بل يبقى وطنا للحرية وواحة للإشعاع الروحي والفكري.
إنها رسالة الشعب اللبناني الى كل الذين يتنازعون في الحصول على الجبنة، في عملية تقاسم على مائدة الأطماع الذاتية والحزبية والطائفية
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1045 - السبت 16 يوليو 2005م الموافق 09 جمادى الآخرة 1426هـ