تخيم على أجواء البلاد مواجهة قد تعيدنا إلى أيام التسعينات السوداء، فالاحتجاجات والمسيرات السلمية التي كانت تتم سابقا بهدوء، وسلام أضحت تنتهي بصدام مع قوات مكافحة الشغب، بل في الاحتجاج الأخير أمام الديوان الملكي جرى تدخل الحرس الوطني. كما أضحى هناك ضيق شديد بحرية الرأي سواء من قبل الدولة أو بعض الاتجاهات في المجتمع كما جرى بالنسبة لتكريم جمعية العمل الإسلامي لمجموعة الـ 73 أو تداعيات كاريكاتير خالد الهاشمي.
الملفات العالقة منذ العهد السابق مثل البطالة والإسكان والفساد وتدني مستوى المعيشة والتمييز تتفاقم ولم يعد يجدي فيها الحلول الترقيعية. لقد كشفت دراسة مركز البحرين للدراسات والبحوث ان عدد العاطلين عن العمل لا يقل عن 20 ألفا، أي نسبة 14 في المئة من القوى العاملة الفاعلة من المواطنين، وهو رقم مرتفع وسيرتفع أكثر مع دخول أعداد إضافية من الخريجين هذا العام، وهناك آلاف ممن يؤجرون بطاقاتهم الشخصية للسماسرة، وهم في الظاهر يعملون لكنهم في الحقيقة عاطلون، وبذلك يسهلون للسماسرة جلب المزيد من العمالة الأجنبية مقابل تشغيل وهمي للمواطنين.
وهكذا، فإن تحذير سمو ولي العهد في ندوة ماكينزي المشهور في 26 سبتمبر/ أيلول العام الماضي في محله، إذ عبر عن خشيته من ان يتجاوز الانتعاش الاقتصادي الذي تمر به البلاد، المواطن البحريني العادي من دون ان يستفيد منه.
وفعلا هناك حركة عمرانية وانتعاش اقتصادي ظاهر، ولكن في المقابل فإن هذا الانتعاش لا ينعكس إيجابيا في توظيف البحرينيين كما هو متوقع ولا يرفع مستوى المواطن العادي.
ترتب على هذه الحركة العمرانية، ارتفاع مخيف في أسعار الاراضي وتحول مناطق إسكانية إلى مناطق استثمارية بل تفاقم ظاهرة دفن البحار واختفاء السواحل، وبالتالي تفاقمت أزمة السكن والبيئة.
ويجب التنويه إلى ان ظاهرة إقامة المجمعات السكانية والأبراج والعمارات الجديدة مرتبط بالتوجه لتكريس استخدام العمالة الأجنبية، لأن البحريني لن يستأجر سكنا في هذه المجمعات والعمارات والأبراج ، بل لا يؤهله دخله لذلك، ولهذا فإن مصلحة الملاك العقاريين تكريس واقع تدفق العمالة الأجنبية وبقائها، والمهم لديها هو الربح والمزيد من الربح ولو على حساب المواطن أو الوطن. والحقيقة ان الحكومة تتخبط في معالجة أي من الملفات الرئيسية، فبالنسبة للبطالة تتالت المشروعات مثل البحرنة وضمان البطالة وماكينزي ونافع، وكل مشروع سبقه. فالبطالة تراوح مكانها بل تتفاقم. اما بالنسبة للإسكان فقد سمعنا عن مشروع المدن الأربع العملاقة التي ستحل معضلة السكن مرة وإلى الأبد، ليتراجع المشروع العملاق إلى مشروعات صغيرة متناثرة لهذه القرية أو تلك أو لهذه المدينة أو تلك في حين تتكدس طلبات الخدمة الإسكانية حتى بلغت ما يزيد عن 50 ألف طلب، بعد ان لم يعد لدى الدولة أراضي لإقامة مشروعات سكنية كبيرة.
أما بالنسبة لمستوى المعيشة فقد أضحى حلم الموظف الكبير هو الحصول على "البونس" وهو ان صرف لن يكفي لأكثر من مصروف أسبوع، في حين ان الأرقام تبشرنا بارتفاع معدل دخل الفرد السنوي باطراد، ونمو اقتصادي مستديم.
هذه الأزمات وغيرها مرشحة للتصاعد وكأن حالنا هو حال الشعب المصري الذي بشره السادات بالرخاء والازدهار في ظل الانفتاح ولم يحصد سوى المزيد من البؤس.
ديمقراطية مع وقف التنفيذ
قد يتحمل المواطنون ضنك العيش لو انهم يتمتعون بالحرية الموعودة والمشاركة السياسية، وبناء نظام ديمقراطي ناضلوا وضحوا من أجله جيلا بعد جيل. لكن واقع المسرح السياسي يشعرهم بأنهم في مسرح العبث الذي يجري تمثيله ما بين الحكومة ومجلس النواب ومجلس الشورى محبطا ايما إحباط.
فالموازنة تختفي فيها مئات الملايين من الدنانير في حين تمانع الحكومة في صرف مكافأة متواضعة قدرها 200 دينار للموظفين، وإقرار ضمان اجتماعي للعاطلين. وتضن أيضا على المواطن الفقير بسكن لائق، في دولة نفطية في زمن تجاوز فيه برميل النفط 60 دولارا.
دولة تتلقى مساعدات الأشقاء الخليجيين ببضعة ملايين، وتضيع مئات الملايين هنا وهناك، وفي الوقت الذي يتوالى فيه صدور القوانين المقيدة للحريات والمخالفة للدستور، تعطل فيه مشروعات القوانين التي تهم المواطنين مثل مشروع قانون الذمة المالية، ومشروع قانون تجريم التمييز ومشروع قانون الأسرة.
أما مقترحات مؤسسات المجتمع المدني بشأن مشروعات القوانين مثل مشروع قانون التنظيمات السياسية ومشروع قانون التجمعات ومشروع قانون الصحافة فإنه يجري إحباطها في اللجنة التشريعية لمجلس النواب، وكأن هذا المجلس يزايد على الحكومة في تضييق الخناق على المواطنين وإذلالهم ودفعهم إلى الحائط المسدود .
ومجلس الشورى ليس أحسن حالا فلقد تم انتقاؤهم بعد اختبار طويل للولاء، في مهاجمة المعارضة وتسخيف رؤاها وإحباط مطالب المواطن العادي.
غياب النخبة المسئولة
إذا كان من إيجابية للعهد الجديد، انه اتاح للنخب السياسية والثقافية ان تخرج إلى السطح وتمارس حرية التنظيم والتعبير والحركة، وان في حدود، كانت هناك طموحات كبيرة للمخلصين لهذا الوطن في ان يصطف المناضلون مع بعضهم بعضا، بعيدا عن الحسابات الضيقة، وصراعات الماضي، والطموحات الشخصية، إذ عاشت البحرين وشعبها أياما من الفرح والانفتاح لم تشهده منذ عقود، فلقد صار من الممكن ان يتزاور أبناء المحرق مع أبناء المحافظة الشمالية، وأهالي الرفاع مع أهالي سترة واسترجع المواطنون أجمل صور الماضي أيام هيئة الاتحاد الوطني إذ الوحدة الوطنية.
وعلى رغم التخريب الذي مورس طوال ثلاثة عقود للروابط التي تجمع أبناء الشعب الواحد، فقد انتفضت الروح الأصيلة لشعب البحرين كاسرة الحواجز الطائفية والقبلية والمناطقية .
ألم يكن رائعا ان يكون المتحدثون في ندوة جمعية الإصلاح رجل الدين الشيعي الشيخ عبدالأمير الجمري وقطب جمعية الإصلاح الشيخ عيسى بن محمد آل خليفة والقائد العسكري المعروف عبدالرحمن النعيمي؟ فيما الجمهور الذي ضاقت به قاعة الجمعية بالمحرق رجالا ونساء، من مختلف مناطق البحرين وقد تعالت هتافاته "لا سنية ولا شيعية وحدة وحدة وطنية"، ولكن الحلم الجميل لا يستمر طويلا وتوالت فصول التراجع.
المشروع الإصلاحي هو عصب التغيير ومحركه، ظل يراوح مكانه وتعايش أعداء الإصلاح ودعاة الإصلاح في جهاز الدولة على طريق "لا تقبل الذيب ولا يفني الغنم" الإصلاح الشامل والعميق يتعزم إلى عمليات تجميل وترقيع للواقع.
وتغيرات شكلية احتفظت بجوهر الدولة في البنى الجديدة للدولة من برلمان ومجالس بلدية ومحكمة دستورية، ونيابة عامة وديوان الرقابة المالية وغيرها لا ترقى إلى كونها بديلا ديمقراطيا حقيقيا، فالتشريعات أحكمت الخناق على حركة المجتمع الجديد، وأدخلته في متاهة لا مخرج لها.
وفي الوقت ذاته، بقيت النخب السياسية والثقافية التي قادت النضال الوطني طوال ثلاثة عقود لم ترق إلى متطلبات التحدي والمهمات الجديدة، ودبت بسرعة روح العصبية القديمة حتى داخل التيار الواحد، فجاء تشكيل التنظيمات السياسية الجديد على ذات الخطوط للتنظيمات السرية السابقة، بل ان بعض التنظيمات الجديدة بفعل صراعات لا مبدأية بل في تنافس محموم على الزعامة وعلى رغم الفرصة السانحة لتجاوز الانقسام الطائفي والايديولوجي في العمل السياسي للمعارضة على الأقل فقد تم تشكيل التنظيمات على ذات الخطوط الطائفية والايديولوجية القديمة.
أما الطامة الكبرى فهو نجاح السلطة في استمالة مناضلين قياديين صمدوا طوال عقود وانهاروا بسرعة أمام إغراءات متواضعة. ليس هذا فحسب، بل ان قضايا آلاف الجماهير مثل قضية ضحايا التعذيب والاضطهاد والنفي والعاطلين، أصبحت تجارة يتم التربح منها في سوق العمل السياسي، وحقوق الإنسان البحريني لم تسلم من التسييس والاستغلال من قبل قوى سياسية وشخصيات طامحة للزعامة والشهرة. أما السلطة فمن ناحيتها ولمزيد من خلط الاوراق شجعت "تفريخ" الجمعيات بكل أشكالها السياسية والأهلية ولو كانت من لون طائفي أو عرقي أو مناطقي واحد، خلافا للدستور وللمصلحة الوطنية، ولم تجد بأسا في دعم البعض في مواجهة البعض الآخر.
أما الحصاد المر لذلك فهو استشراء الطائفية المقيتة، الذي أضحت كل المطالب تنظر إليه من هذه الزاوية سواء كان تعديل الدوائر الانتخابية أو مشروع إسكاني لقرية، إذ ينظر إليه ان كانت هذه المطالب تصب في مصلحة هذه الطائفة أم تلك، ويجري تصوير أية قضية على انها تحسب لهذه الطائفة على حساب الأخرى ابتداء من الدوائر الانتخابية وصولا إلى تعيين فراش في المدرسة. وان الانقلابات الطائفية التي شهدها البرلمان ما هي الا تنفيسات لضغط الانفجار في القدر الكاتم.
هل هناك مبادرة وطنية تطرح على شرفاء هذا الوطن بكل تجرد وصدق تنهي عمق المأزق الذي نحن فيه؟
وهل من مبادرة من جلالة الملك بحجم مبادرة الميثاق، على حد تعبير الأمين العام للجمعية البحرينية لحقوق الإنسان سبيكة النجار، في عرضها تقرير الجمعية السنوي عن حال حقوق الإنسان المحزنة في البحرين؟
وهل من توافق وطني بين جلالة الملك والنخب الوطنية لإعادة إطلاق المشروع الإصلاحي الذي غرز في رمال الدولة والمعتاشين على خيراتها؟ أرجو الا يكون الأوان قد فات ونكون بذلك قد دخلنا طرف الاعصار الذي سيجرنا إلى قلبه المدمر
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 1045 - السبت 16 يوليو 2005م الموافق 09 جمادى الآخرة 1426هـ