مست تفجيرات لندن حياة مسلمي بريطانيا بصورة خاصة، على رغم أن غالبيتهم كسائر البريطانيين سمعوا بها وتابعوها عبر وسائل الإعلام. وبينما ينشغل مئات المحققين في البحث عن مرتكبي هذه الجرائم تزداد مخاوف الجالية الإسلامية في بريطانيا من احتمال تعرض أبنائها لاعتداءات انتقامية، وأن يصبح كل مسلم هدفا. وعلى رغم أن أئمة المساجد في بريطانيا سارعوا إلى إدانة ما حصل فإنهم يخشون بعد إعلان منظمة مجهولة تابعة لـ "القاعدة" مسئوليتها عن تفجيرات لندن، من وضع كل المسلمين في زاوية واحدة والحكم عليهم كقتلة.
الوجود العربي والإسلامي في لندن بالذات يعود إلى عقود من الزمن، فهناك مهاجرون مسلمون من دول استعمرتها بريطانيا مثل الهند وباكستان، وبعد اندلاع الحرب الأهلية في لبنان في أبريل/ نيسان 1975 تحول المصطافون العرب إلى عاصمة الضباب، إذ نشأ فيها مجتمع عربي وإسلامي تعبر عنه دور الصحف العربية والمطاعم والمقاهي والملاهي وغيرها. وهكذا تحولت أحياء إنجليزية إلى أحياء عربية أبرزها شارع إدجوار رود وكوينز واي وبيزووتر وإيرلز كورت التي كانت في السابق أشبه بمستعمرة أسترالية.
كريم محمد لم يكن قريبا من مكان التفجيرات، لكنه يشعر منذ انفجار العبوات الناسفة في مناطق مختلفة من العاصمة البريطانية أنه جزء من الحادث. ليس بعيدا عن محطة المترو "إدجوار رود" افتتح قبل عامين مطعم لبيع المأكولات اللبنانية التي يقبل عليها الزبائن الإنجليز أيضا إلى جانب الزوار العرب. ومنذ انفجار عبوة في نفق المحطة قبل أسبوع تغيرت حياة محمد من الناحيتين العملية والشخصية. يوم الجمعة عادة من أفضل أيام الأسبوع بالنسبة إليه، إذ يغص مطعمه بالزوار ويحتلون الطاولات الموجودة على رصيف الشارع لتناول الكباب والرز. أما الآن فقد أصبح مطعمه خاويا بعد التفجيرات. وهو يخشى أن تكون هناك نتائج وخيمة عليه وعلى غيره من المسلمين بعد إعلان مجموعة إسلامية مسئوليتها عن التفجيرات.
خلال وقت قصير جدا ظهرت أول رسالة تبني للتفجيرات تبعهتا إدانة رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير العنف باسم الإسلام، وأشار أيضا إلى أن غالبية المسلمين في بريطانيا يعيشون مع الشعب البريطاني بسلام ويعتبرون أنفسهم جزءا من المجتمع البريطاني. غير أن العبارة التي ظلت في ذهن رجل الشارع في بريطانيا: أن ما حصل باسم الإسلام.
رسائل الحقد الإلكتروني
وعلى رغم حرص السلطات البريطانية على عدم توجيه أصابع الاتهام نحو جهة معينة فإن التصريحات الأولية حملت جهات إسلامية مسئولية العنف الذي تعرضت له لندن. كما جاء إعلان تبني الحادث من طرف جهة غير معروفة ليزيد من مشكلات 1,6 مليون مسلم يقيمون فيها. ففي ساعات قليلة وردت أكثر من 30 ألف رسالة تهديد عبر البريد الإلكتروني لمسلمين يقيمون في لندن، حتى أن بعض الأجهزة انهارت بسبب الكم الهائل لرسائل الحقد. كما لم تهدأ التهديدات عبر الهاتف، إذ هدد مجهولون عددا من المسلمين بالانتقام. وفي اليوم التالي وقع أول اعتداء على مسلم، لكن يخشى مع الوقت أن يقع اعتداء دام ضد مسلمي بريطانيا، الذين تراودهم المخاوف نفسها بأن يصبحوا معرض شك مثل أقرانهم في الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول .2001
الجالية المسلمة في بريطانيا أخذت بأسوأ الاحتمالات، وكذلك الشرطة البريطانية. فعند التوجه يوم الجمعة الماضي إلى أداء صلاة الجمعة في أحد جوامع لندن الذي كان يخضع لرقابة مشددة، كانت سيارات الشرطة متوقفة خشية تعرض المصلين لاعتداءات من قبل ذوي الرؤوس الحليقة الذين اعتاد المرء أن يشاهدهم في مباريات كرة القدم. رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير من جانبه، وصف الجالية المسلمة في بريطانيا بأنها مثال طيب في المجتمع، كما حث مع عمدة لندن كين لفنجستون المعروف بمواقفه المنصفة تجاه القضايا العربية وهو من أبرز مناهضي حرب العراق، الشعب البريطاني على الاستمرار بموقفه الليبرالي تجاه الجماعات الدينية الأخرى. وكانت هذه دعوة عامة للبريطانيين الذين يفكرون بأعمال انتقامية إلى التراجع عن خططهم العدوانية التي من شأنها أن تصب الزيت على النار.
وسائل الإعلام البريطانية تسرعت في الحكم واتهمت جماعة إسلامية متطرفة وقامت بنشر صور لزعماء جماعات تخضع لمراقبة البوليس السري البريطاني مثل أبوحمزة المصري وأبي قتادة، وطالب المعلقون بتقييد نشاطات هذه الجماعات وفرض مراقبة خاصة على مساجد يشرفون عليها وأبرزها مسجد فلينسبري بارك. هذه التهم والشبهات تحولت إلى حقائق في كثير من الصحف الشعبية.
الصحف العربية الكثيرة التي تصدر في لندن حذرت منذ البداية من التسرع في الحكم وانتقاء مرتكبي جرائم التفجير، ودعت السلطات إلى التحقيق في الاتجاهات كافة. كما شككت الصحف العربية في صحة رسالة تبني العملية من قبل جماعة لم يسمع بها من قبل، ولفتت النظر إلى السرعة التي ظهرت بها الرسالة على شبكة الإنترنت، ولفتت إلى أن هذه ليست من عادة تنظيم "القاعدة". كما طالب إعلاميون عرب بأن يخرج المسلمون عن صمتهم وينزلوا إلى الشارع للتنديد بجرائم التفجيرات بدلا من الجلوس في البيوت والتزام الصمت.
في اليوم الذي وقعت فيه التفجيرات سارعت الجمعيات الإسلامية إلى التنديد بها، وقال أحد المتحدثين "إن مسلمي بريطانيا هم أيضا ضحايا هذه التفجيرات ولن نسمح للمجرمين بالتسبب في انقسام المجتمع الذي نعيش فيه". وقادت التفجيرات إلى تقارب بين الجمعيات الإسلامية والحكومة البريطانية بعد أن احتجت هذه الجمعيات بقوة على دور بريطانيا في غزو العراق ونادت بعدم تأييد بلير في الانتخابات الأخيرة.
وتعمل الجمعيات الإسلامية في بريطانيا على حملة للرد على الأحكام المسبقة والتهم المريبة، ووجهت دعوة إلى صحافيين من أنحاء العالم لسماع موقف مسلمي بريطانيا المستنكر للتفجيرات الدامية. أحد المصلين العجائز في جامع ريجنتس بارك جلس يستمع إلى خطبة الجمعة وبيده صورة لحفيدته التي تبلغ 21 عاما. وقال والدمع ينهمر من عينيه إنها لم تعد إلى المنزل منذ وقوع التفجيرات.
شابة إيرانية مولودة في لندن قالت للصحافيين: "أصبحنا عبارة عن أهداف سهلة لانتقام رخيص". وقال شاب ينحدر من بنغلاديش: "لي أقارب في نيويورك وقد أبلغوني عن معاناتهم بسبب دينهم بعد هجمات سبتمبر وأخشى أن يحصل لنا الشيء نفسه".
يبدو أن الحكومة البريطانية أدركت هذا الخطر، فبعد وقت قصير على التفجيرات اجتمع مستشارون لرئيس الوزراء البريطاني مع ممثلين عن الجالية المسلمة، وأوضح الطرفان أنه ليس في مصلحة أي طرف حصول انشقاق في المجتمع البريطاني المتعدد الثقافات، والذي يعتبر من المجتمعات المتجانسة في العالم. تفجيرات لندن لم تكشف فقط عن شراسة المعتدين بل وحدت سكان مدينة لندن جميعا بمن فيهم المسلمون
العدد 1044 - الجمعة 15 يوليو 2005م الموافق 08 جمادى الآخرة 1426هـ