أكد السيدمحمدحسين فضل الله أن الأب الحقيقي للإرهاب هو الاستكبار الذي أرسى قواعد الاستئثار المجنون من دول معينة على حساب جوع البشرية ومآسيها، ودعا إلى قيام جبهة عالمية لمحاربة الإرهاب والفقر معا، مؤكدا ضرورة إيجاد حلول جذرية لمشكلات المديونية والفقر في العالم. جاء ذلك ردا على سؤال في ندوته الأسبوعية عن الموقف الإسلامي من اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، وسيطرة الدول الكبرى على أسواق الدول الفقيرة والحلول التي يقترحها الإسلام للمعضلات الاقتصادية؛ وفيما يأتي إجابته.
لقد كان من حكمة الله سبحانه في تحقيق التوازن في الحياة الإنسانية أن جعل الاختلاف والتمايز بين الناس في مواردهم وطاقاتهم وحاجاتهم وتنوعهم في المهمات والأدوار منطلقا لتفاوت في درجات الإمكانات والظروف بين إنسان وآخر، وبين فئة وأخرى، الأمر الذي يجعل الحياة الإنسانية حركة تبادل في المصالح والحاجات، وذلك قوله تعالى: "نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا". أما هذا التفاوت الذي أراده الله سنة طبيعية حتى لا يكون أحد مستغن عن أحد، ويكون كل شخص مسخرا للآخر، وحتى تصبح الحاجة التي تفرض التسخير بمثابة الأمر النسبي لا المطلق، فقد ابتعد عن كونه سنة طبيعية، وذلك بعد أن حوله الطغاة والمرابون العالميون إلى هوة واسعة بات يصعب ردمها في ما بين الأغنياء والمستكبرين من جهة، والفقراء والمستضعفين من جهة أخرى.
ومن هذه الزاوية، لو تأملنا الانقسام والتمايز في دول العالم اليوم وفي التاريخ، للاحظنا وجود مجتمعات غنية وقوية وأخرى مستضعفة وفقيرة، وجهات تعيش في بحبوحة نسبية، وأخرى تعاني من مشكلات، حتى حصر العالم اليوم الغنى في ثمانية دول بلحاظ دورها في الحركة الاقتصادية والسياسية العالمية، وأطلق عليها عنوان "الثماني الكبار"، التي عقد مؤتمرها قبل أيام في اسكتلندا على وقع تظاهرات عالمية صاخبة تطالب بتضييق الهوة بين غناها وفقر الدول الفقيرة. وأمام هذا الواقع نشير إلى بعض النقاط:
أولا، إذا كان التمايز بين المجتمعات ضرورة لإعمار الحياة فإنه تحول بفعل السياسة الدولية إلى مشكلة تدميرية للحياة بعد أن ابتعد عن الأخذ بالقيم التي جاءت بها الرسالات السماوية وغير السماوية عبر سلسلة من التوجيهات والبرامج التي تخفف من غلواء نزعة التسلط والطغيان الناشئ من الشعور بالتفوق والاستغناء عن الآخرين. ومن أجل تدارك ذلك لجأ الإسلام وغيره من الأديان إلى جملة من التشريعات السياسية والاجتماعية والقواعد الأخلاقية، أهمها ضرورة مواجهة المستضعفين للدول المستكبرة والناهبة، وأكد تحريم الربا الذي يمثل استغلالا لحاجات الناس ويؤدي إلى استفحال الفقر لدى الفئات المستضعفة وتضخم الفئات الغنية عبر تجميع واستغلال الثروات المادية من قبل أفراد وجماعات أو دول. وبذلك تتحول الجماعات أو الدول العاملة والكادحة إلى عنصر إنتاج لحساب الدول والجماعات الغنية من دون مقابل يذكر، إذ يتم استنزاف الطاقات المنتجة لغير مصلحتها ويفسح في المجال لسيطرة الأغنياء على الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بما يمكنهم من استمرار الاستغلال. ولعل هذا ما نلاحظه في حركة البنك الدولي الخاضع لسياسات الدول الكبرى، وخصوصا الولايات المتحدة، والذي تحول إلى قيد يضغط على الواقع الاقتصادي والسياسي للدول الفقيرة ليجعلها تسخر حركتها الاقتصادية والسياسية لحساب المشروعات التي تطلقها هذه الدول.
ثانيا، إن ثمة جريمة تتسالم دول الاستكبار العالمي على استمراريتها من دون ضوابط حقيقية تتمثل في احتكار الشركات الكبرى، وتلك التي يسمونها "المتعددة الجنسية"، وخصوصا في ظل ما يعرف بالعولمة، مع ما يتركه ذلك من اختلالات كبرى في اقتصادات الدول الفقيرة لمصلحة هذه الشركات، ما يساهم في سحق شعوب بأكملها وتدمير مقدراتها وجعلها متخلفة عن الركب العالمي مع ما يفرزه ذلك من مشكلات طاغية على المستوى الصحي والتربوي أو الأخلاقي، لا بل مع إيجاد بيئة ينمو فيها العنف وتتصاعد فيها حركة الإرهاب الذي نزعم أنه ينمو أكثر مما ينمو في ظل سياسة الطغيان الاقتصادي والقهر السياسي التي تفرضها أميركا الإدارة على العالم وتسقطها على المجتمعات.
ثالثا، إن علينا أن نلتفت إلى الغايات والأهداف التي ترسمها الدول المستكبرة من خلال الحروب والقلاقل التي تهيئ لها الأجواء الإعلامية والتبريرات السياسية الزائفة لحساب الوفرة في إنتاج وبيع السلاح من مصانعها، ونهب ثروات الدول الفقيرة بشكل منظم، وصولا إلى تحكمها بسوق النفط العالمي وتحريكها الاهتزازات الاقتصادية والأمنية والسياسية بشكل مدروس من أجل التحكم أكثر بمصادر الطاقة وخصوصا النفط. والثروات الطبيعية ملك الشعوب، وإذا كانت تلك الشعوب غير قادرة على استثمارها، فإن ذلك لا يبيح للدول الغنية استغلالها لمصلحتها بعيدا عن مصالح تلك الشعوب، ولذلك فإن المطلوب من الدول الفقيرة ألا تستجدي الدول الغنية لتتصدق عليها بشيء من المساعدات أو بشطب بعض ديونها بشروط مذلة سياسيا واقتصاديا، بل أن تنتظم في جبهة عالمية لمواجهة الناهبين الدوليين الذين يواصلون نهب ما تبقى من ثروات الفقراء الدفينة، في مؤتمرات تحمل في ظاهرها عناوين الرحمة وفي باطنها عناوين الشر والسيطرة والنهب.
إن الرئيس الأميركي ربط في قمة الثماني مساعدة الدول الفقيرة بمدى مكافحتها الفساد والالتزام بالقيم الديمقراطية، وكأنه يقول للشعوب إن عليها أن تدفع أثمانا مضاعفة للفقر الذي انطلق في الأساس من سياسة الدول الاستعمارية التي نهبت هذه البلاد، في الوقت الذي يعرف الجميع أن السير في ركب الدكتاتورية في معظم هذه الدول انطلق من خلال أميركا نفسها التي دعمت هذه الدكتاتوريات طوال عقود من السنين باعتراف بوش نفسه، وهو ما أدى إلى الفساد والافلاس.
إنهم يقولون هناك في الغرب إن الإرهاب هو ابن الفقر، ولكن لا على أساس الاعتراف بمسئولياتهم حيال انتشار هذه الظاهرة، أما نحن فنقول إن الإرهاب هو ابن الفقر والقهر والجشع، وأبوه الحقيقي هو الاستكبار الذي أرسى قواعد الاستئثار المجنون من قبل دول معدودة أو شخصيات ثرية على حساب جوع البشرية ومآسيها. وإن ما حصل ويحصل من خطة مبرمجة عالميا لإفقار الشعب الفلسطيني يراد له أن يضيف إلى مأساة هذه الشعوب السياسية مأساة اجتماعية تضرب بآثارها ونتائجها بعيدا حتى عن الساحة الفلسطينية ووصولا إلى المنطقة كلها.
إننا مع قيام جبهة عالمية لمحاربة الإرهاب والفقر معا شريطة أن تدرس الأسباب الدافعة لانتشار الإرهاب والنتائج المدمرة المترتبة على إفقار الشعوب والعمل لردم الهوة من خلال السعي إلى التنمية وإصلاح اقتصادات وسياسات الدول الفقيرة من جهة، والبحث الجدي في تغيير الدول المستكبرة لسياساتها الخارجية، وخصوصا أميركا، أو على الأقل التحرك ضمن نقلة نوعية في هذه السياسة بما يرفع سيف الهيمنة والقهر عن رقاب الشعوب.
إننا في لبنان والعالم العربي والإسلامي، أمام مديونية تنتج الأزمات، وأزمات تنتج المزيد من التعقيدات السياسية الأمنية، فتعالوا إلى الحلول الجذرية فيما هي سياسة الإمبراطوريات الاقتصادية والسياسية العالمية وفي توفير المناخات والأفراد الملائمين للقيام بعملية إصلاح حقيقية، وإلا فإن البلد الذي يستشري فيه الفقر بفعل سياسة الهيمنة والقهر والنهب سيقول للإرهاب: اتبعني
العدد 1043 - الخميس 14 يوليو 2005م الموافق 07 جمادى الآخرة 1426هـ