العدد 1043 - الخميس 14 يوليو 2005م الموافق 07 جمادى الآخرة 1426هـ

مرحلة الفتوحات

تاريخ الفكر الاقتصادي في الإسلام "2"

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

في العهد الراشدي صارت الأموال على ثلاثة اصناف وهي: الفيء "ويشمل الخراج"، والخمس، والصدقة. ويعتبر عهد الخليفة الراشد الثاني "عمر بن الخطاب" ابرز محطات تاريخ الاسلام من ناحية التعديلات التنظيمية واستحداث قوانين شرعية تعتمد الكتاب والسنة لإدارة مالية الدولة "مصادر دخلها وانفاقها".

آنذاك اتسعت الفتوحات ودانت الشعوب للاسلام وازدادت الأموال فطرح السؤال: ماذا نفعل بالأموال والجوالي "جاليات الناس" والأراضي؟

تشاور الخليفة عمر مع أهل الحل والعقد فاقترح بلال بن رباح وعبدالرحمن بن عوف بتقسيم السواد "الأراضي الخصبة" وما افتتح من مدن على الجند والمسلمين، واقترح عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وطلحة بن الزبير على وقف الأملاك ووضع السواد تحت اشراف الدولة، ومال الخليفة إلى رأي عثمان وعلي وطلحة وقال: "كيف اقسمه لكم، وأدع من يأتي بغير قسم؟". فأجمع على تركه وجمع خراجه واقراره في أيدي أهله ووضع الخراج على أراضيهم والجزية على رؤوسهم. ومذ ذاك بدأ التمييز بين أرض العشر وأرض الخراج. فأرض العشر هي ما جرت عليها القسمة بين المسلمين، وهي ضريبة تؤخذ من أرض المسلم أو من تجارة أهل الحرب "ضريبة مرور" في أرض المسلمين.

اضطر عمر إلى وضع أراضي الفتح تحت اشراف الدولة في حال لم يكن لها اصحاب وترك الأرض لأهلها ووضع عليهم الخراج خوفا من وقوع الشر واقتتال المسلمين. وانتهج الخليفة الراشد الرابع السنة نفسها، وينقل عنه قوله: "لولا ان يضرب بعضكم وجوه بعض لقسمت السواد بينكم".

استندت خطوة عمر على آية كريمة "كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم" "الحشر: 7"، فألغت سياسته احتمال قيام اقطاع عسكري وراثي فرفض رأي من يطالب بقسمة أراضي الفتح خوفا من ان يأتي المسلمون "فيجدون الأرض بعلوجها قد اقتسمت وورثت عن الآباء وحيزت". فإذا قسمت الأرض "العراق والشام والجزيرة آنذاك" بعلوجها "فما يسد به الثغور وما يكون للذرية والآرامل بهذا البلد وبغيره من أرض الشام والعراق". وخوفا من تفتت الأرض واندثار الثروة واكتناز المال وحرمان المسلمين من الأجيال اللاحقة من النعمة رفض عمر القسمة وفرض الضريبة والجباية وهي ما تعرف بالخراج أو الفيء. وعليه قام بقسمة الأموال والسلاح واخرج الخمس منه لبيت المال وحبس الأرض بعلوجها "أوقفها تحت اشراف الدولة" ووضع عليها الخراج والجزية "يؤدونها فتكون فيئا للمسلمين". فالخراج فيء لجميع المسلمين ويختلف عن الصدقات أو العشور، لأن الصدقات هي لمن سمى الله في كتابه.

استندت الإضافة المهمة التي حصلت في عهد الخليفة الراشد الثاني إلى آية "والذين جاءوا من بعدهم" "الحشر: 01" فاستوعبت الناس كلهم اضافة إلى الأصناف الخمسة آية الفيء والأصناف الثمانية "آية الصدقة". فلم يبق من المسلمين الا وله حق فيها.

عرفت دولة الإسلام منذ تلك الخطوة نظام الفيء وهو خراج الأرض، والخراج ما افتتح عنوة مثل السواد وغيره. وجاء الفيء ليعدل من القسمة السابقة. فالأرض غير الغنيمة. فالغنيمة "الكراع والمال" تقسم بين من حضر من المسلمين بينما تترك الأرض والانهار لعمالها "ليكون ذلك في اعطيات المسلمين"، لأنه اذا قسمت الأرض بين من حضر "لم يكن لمن بعدهم شيء".

ثم عاد وميز الخليفة عمر بين من سالم المسلمين ومن قاتلهم. فمن أجاب دعوة الاسلام قبل القتال بحاسب كرجل من المسلمين و"له سهم في الاسلام"، ومن أجاب بعد القتال والهزيمة فماله "لأهل الاسلام" لأنهم احرزوه قبل اسلامه. فما افتتح عنوة فهو أرض خراج وما صولح عليه أهله فعلى ما صولحوا عليه ولا يزاد عليهم، وما اسلم عليه أهله فهو عشر. كذلك تفاوتت الجزية اجتماعيا فاعتمد الخليفة الثاني النظام التراتبي فكان مقدارها على الاغنياء 84 درهما في السنة الواحدة، وعلى متوسطي الحال 42 درهما، وعلى الفقراء 21 درهما.

وهكذا أضافت الدولة في عهد عمر مرحلة تقسيم الثروة بالتساوي على أساس الخمس "الخمسة أخماس" إلى مرحلة الجباية والضريبة "الخراج والفيء" فأوقفت الأرض وبات دخلها يعود إلى بيت المسلمين "المصرف المركزي في أيامنا" ليعاد توزيع الثروة بحسب حاجات الدولة ووظائفها. فكان يعاد انفاف المال من موازنة الدولة لتعزيز الثغور وتنظيم الجيوش وتشجيع الناس على الجهاد. وكانت تصرف النفقات والمعاشات من بيت المال واعتمدت ورش مد الطرقات وبناء الجسور وتخطيط المدن وتنظيم جر المياه والقنوات على موازنة الدولة.

إلى تعديل القسمة وتوزيع الاسهم واستحداث نظام الفيء "الخراج" استن الخليفة عمر نظام الصوافي والقطائع. نظم عمر الصوافي ووزعها على عشرة أصناف: أرض من قتل في الحرب، أو من هرب، وكل أرض كانت لكسرى "ملك الفرس"، أو كانت لأحد من أهله، وكل مغيض ماء، وكل دير بريد.

وميز عمر بين الصوافي والقطائع، فالصوافي ملك الدولة لا تخضع للضريبة "الخراج أو العشر" وتعود ماليتها بالكامل إلى بيت المسلمين ليعاد انفاقها بحسب حاجات الدولة. أما القطائع فهي ملك أشخاص توزع عليهم من قبل أمير الدولة، فمن حق الخليفة ان يجيز منه ويعطي من كان له دوره في إعلاء شأن الاسلام. واعتبرت القطائع كالصدقة، ولأنها ملك اشخاص يتوارثونها وضع عليها الخراج وفرضت الجباية وكان يؤخذ منها العشر. وغير ذلك يمنع، اذ يمنع على احد ان يأخذ من واحد ويقطع الآخر، فهذا يعتبر بمنزلة مال غصبه واحد من واحد واعطي واحدا. فهذا النوع لا يجوز لأنه يعتبر محاولة توريث من مال الغير وأرضه. فالأرض بمنزلة المال يحق لولي الأمر اقتطاعها، وحق التملك ضروري لأنه يعمر الأرض ويكثر من الخراج. واشترط عمر على من كانت له قطعة أرض أو اقتطع له الوالي من الصوافي ان يعتني بالأرض ويعمرها ومن يتركها لثلاث سنين ولم يعمرها وجاء قوم آخرون وعمروها فهم أحق بها. فالأرض لمن زرعها والأولوية للعمل والانتاج. وقام عمر بتطوير نظام العطاء الذي استحدثه الخليفة الأول. اعتمد أبوبكر الصديق سياسة توزيع الغنائم على أصحاب الرسول "ص" وكل من وعده شيئا من طريق الأخذ بالكفين ويقسم البقية الباقية من المال بين الناس بالسوية على الصغير والكبير، والحر والمملوك، والذكر والأنثى.

اختلفت القسمة في عهد الخليفة الثاني حين زادت الفتوح وكثرت الاموال فخالف الخليفة الأول في رأيه ورفض ان يسوي بين من قاتل الرسول ومن قاتل معه. فاعتمد سياسة تراتبية بين أناس لهم فضل وسوابق وقدم، وبدأ بالأقرب "أقرباء الرسول وأهله وأزواجه" ثم أهل السوابق والقدم من المهاجرين والأنصار وممن شهد بدرا "معركة بدر" ولمن لم يشهد بدرا، ولمن كان له اسلام كإسلام أهل بدر، وأنزل من هم من دون ذلك على قدر منازلهم من السوابق. ثم اختلفت قسمته بعد فتح فارس وبعض أرض الروم فرأى ان يجعل عطاء الناس في كل سنة ويجمع المال، بعد ان تضخم وازداد، في بيت المال "فإنه أعظم للبركة".

وبسبب كثرة المال وارتفاع الجباية "الخراج والفيء" تنوع توزيع الثروة فاضطر عمر إلى انشاء ديوان الاعطيات سجل فيه اسماء الأشخاص بحسب النظام التراتبي الذي اعتمده سابقا وأضاف اليه اسماء القبائل والعائلات بحسب قربها وبعدها وفضلها وسوابقها. وشكلت تلك الدواوين والسجلات أهم مادة ارشيفية استخدم المؤرخون المسلمون لاحقا معلوماتها لتسجيل تاريخ البدايات الأولى للدعوة وتوزع مراكز القوى ودورها في الفترات التي سبقت التدوين الرسمي.

شكلت سياسات الخليفة الثاني قواعد عامة لاقتصاد الدولة الاسلامية واعتمدت كلها في الفترات اللاحقة كما هي ولم تتغير انظمتها "الزكاة، الخمس، القسمة، الخراج، الفيء، العشر، الصدقة، الصوافي، القطائع والعطاءات" إلا بالنسبة المئوية "الزيادة أو النقصان" بسبب اختلاف المقاييس والأوزان والمكاييل، أو بسبب اختلاف الانتاج وأنواعه. واستمرت القواعد كما هي وتم توضيحها فقط. فمثلا مال الصدقة لا ينبغي ان يدخل في مال الخراج.

الاضافة الوحيدة التي يمكن ادراجها على مالية الدولة الاسلامية تلك التي استحدثها الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان وهي فرض ضريبة على العمل "الدخل السنوي".

بدأ عبدالملك سياسته تلك حين وضع أهل الجزيرة "أعالي الفرات" بإمرة الضحاك بن عبدالرحمن الاشعري اذ جعلهم كلهم طبقة واحدة وعمالا للدولة. وكان يحسب ما يكسب العامل في سنته كلها ثم يطرح من دخله السنوي نفقاته على طعامه وكسوته وحذائه ومصاريف عائلته، ثم يطرح أيام الأعياد "العطل السنوية" وأخيرا يفرض عليه ضريبة سنوية للدولة. إلى ذلك اعتمد الضحاك في عهد عبدالملك نظام قرب الأرض وبعدها، فحدد البعد بمسيرة اليوم واليومين وأكثر والقرب بمسيرة ما دون اليوم، فاختلف خراج الأرض بين البعيدة والقريبة. وشمل نظامه هذا الجزيرة والموصل والشام. استمر نظام الضحاك في فرض ضريبة العمل "الدخل السنوي للبشر" إلى الخراج "ضريبة الأرض والانتاج" إلى عهد الخليفة الزاهد عمر بن عبدالعزيز فحاول العودة إلى سيرة الأوائل فألغى بعض التنظيمات التي استحدثت في عهد عبدالملك "ضريبة الدخل، وضريبة مسافة بعد الأرض وقربها" وأبقى على كل الأنظمة السابقة من عهد الدعوة إلى نهاية العهد الراشدي.

كان مصدر الخلاف الشرعي بين العلماء والفقهاء هو ان بعضهم اعتمد على آية الفيء وبعضهم الآخر على آية الصدقة فافترقت بذلك الاجتهادات، خصوصا في مسألة الانفاق. وضمن هذه القواعد نشأ النظام الاقتصادي في دولة الاسلام واستمر إلى العهد العباسي فشهد بعض التعديلات، مثل المكوس، وهي ضريبة يأخذها الماكس وأصلها الجباية وتأتي من العشور والتجارة وهي محرمة وأقرب إلى الربا. لكن هذه التعديلات لم تمس جوهر النظرية الأولى وما تفرع عنها من أنظمة. فالاختلاف الوحيد كان تغير السياسة الضريبية بحسب حاجات الدولة وتعدد وظائفها الأمر الذي فرض على الخلفاء تعديل نظام الصدقة نسبيا، الذي وضعه الرسول، من دون الخروج على المضمون العام. كذلك اعادة ترتيب نظام الحسبة في الاسلام ليتوافق مع مالية الدولة وموازنتها من ناحيتي الدخل والانفاق. ولعب العلماء والفقهاء ورجال الدولة والقضاة دورهم في تفسير الانظمة الاقتصادية وتطويعها لتتناسب مع البيئات الجغرافية والاجتماعية والزمنية

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1043 - الخميس 14 يوليو 2005م الموافق 07 جمادى الآخرة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 12:15 م

      سؤال

      هل يوجد اراضى لضريبة للفئ ام لا وما هى ؟ شكرا لك

اقرأ ايضاً