العدد 1042 - الأربعاء 13 يوليو 2005م الموافق 06 جمادى الآخرة 1426هـ

اندفاعة قوية ثم مراوحة مع بعض التراجعات

تجربة المغرب في الإصلاح والمصالحة

عبدالنبي العكري comments [at] alwasatnews.com

ناشط حقوقي

أتيحت لي زيارة المغرب خلال الفترة ما بين 23 يوليو/ تموز حتى 12 أغسطس/ آب ،2004 وشاركت إلى جانب إخوة آخرين في المنتدى الاجتماعي المغربي الذي انعقد خلال الفترة من 26 إلى 27 يوليو 2004 إلى جانب فعاليات أخرى مثل ورشة المنتدى الأوروبي العربي، وورشة العدالة الانتقالية. وقد تنقلت بين بعض المدن مثل الرباط والمحمدية والدار البيضاء وطنجة وأصيلة. كما أتاحت لي هذه الزيارة - وخصوصا من خلال المنتدى الاجتماعي المغربي والفعاليات الأخرى وخصوصا مهرجان أصيلة وندواته - الالتقاء مع مغاربة من مختلف المناطق وأصحاب انتماءات سياسية ومواقع اجتماعية مختلفة. وصادف أثناء الزيارة الاحتفال بالذكرى الخامسة لتولي الملك محمد السادس الحكم في 30 يوليو ،1999 إذ كرست الصحف والمجلات المغربية أعدادا خاصة لهذه المناسبة، وتقييم خمس سنوات من العهد الجديد الذي طرح في مقدمة أولوياته الإصلاح والمصالحة.

ولو أخذنا بعض ما ورد في الصحف كمؤشر على تقييمها لعهد محمد السادس نجد ما يأتي:

"الاتحاد الاشتراكي": بمناسبة الذكرى الخامسة لعيد العرش... مكتسبات ورهانات في حقول المصالحة والإصلاح والتقدم.

"الأخبار": "الأخبار" تضع أمامكم حصيلة خمس سنوات في حكم محمد السادس.

"الأيام": الملك ليس مقدسا.

"الصحيفة": خمس سنوات من حكم الغياب... ما تبقى من الحسن الثاني "فساد العهد الجديد".

يعكس الاحتفال بيوم العرش وطأة الدولة المخزنية التي ورثها الملك محمد السادس من أبيه الذي حكم البلاد لأربعين عاما، وأجداده في دولة العلويين التي تحكم البلاد من أكثر من ثلاثمئة عام. وجرى الاحتفال الضخم في الرباط ودعي إليه المئات من كبار المسئولين في الدولة من مدنيين وعسكريين وأعضاء مجلسي النواب والمجلس الاستشاري والقضاة والولاة. وتضمن تأكيد مبايعة محمد السادس ملكا وأميرا للمؤمنين.

ويعتقد المشاهد لهذا الاحتفال المبهر أنه يشاهد عرضا من القرون الوسطى سواء من حيث ملابس المشاركين التقليديين، والخيول المطهمة، ومراسم تقديم الولاء بانحناء كبار القوم وتقبيلهم ليد أمير المؤمنين. وإذا كان لهذا الاحتفال رمزيته، فإنه يشير إلى تعايش القديم مع الجديد، مع ما يمثله القديم من وطأة التقاليد والمراتب على مشروع الإصلاح والتقدم الذي توافق الملك والشعب على أهميته الحيوية.

المصالحة غير المكتملة

تشكل المصالحة الوطنية المقدمة الضرورية لمشروع الإصلاح. فقد عانى المغرب منذ تولي الملك الحسن الثاني الحكم بعد وفاة أب الاستقلال محمد الخامس في ،1959 عقودا من الاضطراب والصراع الداخلي العنيف، شهد المغرب فيها انتفاضات عنيفة مثل انتفاضة مارس/ آذار ،1956 ومحاولات حرب عصابات في جبال أطلس، وحربا مفتوحة في الصحراء المغربية، إلى جانب حرب حدودية محدودة مع الجزائر في تندوف، وترتبت على هذا الصراع الدموي مترتبات ثقيلة.

لقد بدأ الملك الراحل الحسن الثاني خطوات المصالحة الوطنية بعد تفجر قضية الصحراء، في محاولة منه لإيجاد إجماع وطني على قضية الصحراء، عمد إلى مد الجسور مع قوى المعارضة اليسارية، فجرى تدريجيا إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين، وإعادة غالبيتهم إلى أعمالهم الحكومية.

في 30 يوليو ،1999 جاء تشكيل أول حكومة من المعارضة برئاسة المحامي عبدالرحمن اليوسفي المعروف كشخصية حقوقية عربية عالمية، والتي اتخذت خطوات مهمة في مجال المصالحة، إذ ضمت الوزارة وزيرا لحقوق الإنسان، مع خطوات عملية لإنصاف ضحايا عقود من القمع.

تحرك ضحايا القمع

في ظل الانفراج المعقول في أواخر حكم الحسن الثاني وحكومة اليوسفي، بدأ تحرك نشط من قبل ضحايا القمع طوال أربعة عقود لتنظيم أنفسهم وطرح قضيتهم على الأجندة الوطنية، فقد تشكلت لجنة الحقيقة والإنصاف، التي انتشرت فروعها على امتداد المغرب في المدن والقرى والريف والبوادي وأضحت منظومة اجتماعية قوية تخترق جميع الأحزاب والقوى والمؤسسات. وقد قادت هذه المنظمة تحرك ضحايا القمع وهم بعشرات الآلاف، والذي اتخذ عدة أشكال منها الاعتصامات أمام السجون، وزيارة المعتقلات السابقة والمظاهرات والمسيرات والندوات. كما اتسع نطاق عمل جمعيات حقوق الإنسان ونشطاء حقوق الإنسان إذ كانت قضية ضحايا القمع السابق محورا أساسيا في عملها ومحل تعاون مختلف الأطراف، اللجنة والجمعيات والأحزاب والنقابات والهيئات الشعبية وغيرها.

وفي ظل حكم الحسن الثاني ووزارة اليوسفي الأولى جرى تشكيل لجنة الإنصاف والمصالحة، ويرأسها إدريس بنزكري، والتي أنيط بها تلقي طلبات التعويض من قبل المتضررين. وفعلا صرفت تعويضات لآلاف الضحايا. ولكن الدولة في ظل الحسن الثاني أصرت على عدم الاعتراف رسميا بمسئوليتها تجاه عشرات الآلاف من الضحايا، مع ما يترتب على ذلك من تبعات قانونية ومادية ومعنوية. كما أصرت على حماية الرسميين الذين تسببوا في هذه الانتهاكات.

وبعد مجيء محمد السادس إلى الحكم في 30 يوليو ،1999 وإعادة تشكيل حكومة اليوسفي "الوزارة الثانية"، اكتسبت جهود المصالحة الوطنية زخما كبيرا. أقدم الملك محمد السادس على إزاحة إدريس البصري رجل النظام القوي طوال ثلاثة عقود ووزير الداخلية ووزير الإعلام السابق، وأزاح معه الكثير من كبار المسئولين في وزارة الداخلية والمخابرات والأمن العام.

أقدم الملك محمد السادس على التخلي عن سياسة الدولة التقليدية بتمكين الأحزاب الإدارية ومحاربة أحزاب المعارضة ذات القاعدة الشعبية وخصوصا الأحزاب الإسلامية، فخاض حزب العدالة والتنمية الانتخابات لأول مرة، وحل ثالثا في الترتيب بعد الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال. وجاء تشكيل الحكومة الائتلافية من الأحزاب الرئيسية باستثناء حزب العدالة والتنمية، الذي لم يرغب في المشاركة ليسهم أيضا في إيجاد مناخ أفضل للمصالحة الوطنية.

خطت حكومة إدريس جطو الائتلافية خطوة أخرى وذلك بإعادة تشكيل المجلس الأعلى لحقوق الإنسان، وكذلك إعادة تشكيل اللجنة لتصبح المجلس الوطني للمصالحة والإنصاف، بحيث تضم قضاة ومحامين وشخصيات بارزة، وإعطاءه الصلاحيات الكاملة لحسم طلبات التعويض وتوفير الاعتمادات المالية والكادر البشري لحسم القضايا وتعويض المتضررين. كما اعتبر المجلس المنفيين في عداد المتضررين تماما كالسجناء السياسيين، واحتسبت الحكومة سنوات السجن أو المنفى بأنها سنوات عمل لمستخدمي الحكومة يترتب عليها الحصول على مرتبات وترقيات وضمان اجتماعي للمتضررين.

في الوقت ذاته، رسخت لجنة الحقيقة والإنصاف من حضورها وتأثيرها بانضمام المزيد من المتضررين والضحايا إليها، والإجماع الوطني على دورها. وتقوم اللجنة بتقديم ملفات المتضررين الى مجلس المصالحة والإنصاف، إلى جانب جهود المحامين أو الأفراد أنفسهم. كما أن اللجنة تضغط من أجل اعتراف رسمي بمسئولية الدولة، وتقديم الموظفين العموميين المتورطين في أعمال القمع إلى المحاكمة. وفعلا فقد أجريت محاكمات معنوية طوعية لبعض الضباط وجرى بثها عبر القناة الثانية، التي تعتبر فضاء رحبا لتعبيرات المعارضة وحركة حقوق الإنسان.

ومثلت ورشة العدالة الانتقالية التي نظمتها المنظمة الدولية للعدالة الانتقالية ومقرها نيويورك، والمجلس الأعلى لحقوق الإنسان ومقره الرباط، إحدى الفعاليات لخلق وعي لدى ضحايا القمع والجمهور عموما وخلق قناعة لدى الدولة باللجوء إلى العدالة الانتقالية، أي العدالة المعنوية، قبل الانتقال إلى العدالة القضائية في التعاطي مع ضحايا العهد السابق.

الإصلاح الشامل أم الجزئي

لاشك أن مشروع الإصلاح في المغرب هو ثمرة توافق بين المؤسسة الملكية وقوى المعارضة بعد طول صراع. وقد بدأ المشروع في نهاية عهد الحسن الثاني، عندما جرى الاستفتاء على دستور جديد في العام ،1997 ما فتح الطريق أمام ما يعرف بحكومة التناوب، أي تشكيل حكومة من حزب أو أحزاب الأكثرية البرلمانية، بعد إجراء أول انتخابات نزيهة في تاريخ المغرب، وفي ظل حكومة المحامي اليوسفي التي ضمت الاتحاد الاشتراكي وحزب التقدم والاشتراكية، بدأت بعض خطوات الإصلاح الحذرة. ولا ننسى أن الملك الحسن الثاني احتفظ لنفسه بالحق في تعيين وزراء سيادة مثل وزير الداخلية "الحسن البصري" ووزير الخارجية "محمد بن عيسى" واحتفظ الملك بالإشراف على وزارة الدفاع.

يعتبر الإصلاح الدستوري والسياسي القاعدة التي يجب أن ينطلق منها الإصلاح الشامل الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي والقضائي والإعلامي إلخ. والواقع أن الدستور المعدل الذي جرى الاستفتاء عليه في ،1997 يعتبر خطوة مهمة في طريق الإصلاح، ولكنه في نظر البعض غير كاف، فقد قاطعت عملية الاستفتاء عليه والانتخابات المترتبة عليه، منظمة العمل الديمقراطي ومنظمة إلى الأمام. ودستور ،1997 وإن كان يفتح طريقا أمام حكومة التناوب، إلا أن الملك احتفظ بغالبية الصلاحيات شبه المطلقة التي يتمتع بها، ومن ذلك قيادة القوات المسلحة وتعيين الولاة، وتعيين الوزير الأول ووزراء سيادة، والحق في رفض أو تعطيل أي قانون لا يرغب فيه، وغير ذلك.

قداسة الملك

أما القضية الثانية فإن الملك بموجب الدستور هو أمير المؤمنين تجب طاعته من منطلق ديني ووطني، وهنا الإشكال الكبير، أي ازدواجية مصدر السلطة من الشعب ولو جزئيا من خلال ممثليه المنتخبين والسلطة الإلهية المناطة بأمير المؤمنين. هناك اتفاق بين القوى السياسية على ضرورة الإصلاح الدستوري، لكن هناك تباينا في مدى هذا الإصلاح وجوانبه. فقد ارتفعت أصوات تطالب بأن تنزع صفة القداسة عن الملك، أي نزع صفة أمير المؤمنين، ومن ذلك ما طرحه أحمد الريسوني، وهو عضو المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح وعضو المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية ومدير صحيفة "التجديد" وأستاذ أصول الفقه الإسلامي ومقاصد الشريعة في كلية الآداب بالرباط، إذ ذهب إلى أنه لا ارتباط عضويا بين الملك وامارة المسلمين، فالملك صفة حكم زمني تقوم على الوراثة، أما الإمارة فيكلف بها من هو مؤهل لينهض بمسئولياتها، ويزكيه علماء المسلمين.

وقد أثارت أطروحات الريسوني ردود فعل واسعة وقوية سواء في أوساط الحكم ومؤسساته، أو في أوساط النخب السياسية والثقافية. ولتجنيب حركة التوحيد والإصلاح إمكان الحل استنادا إلى مخالفة قيادي فيها لثوابت الدستور في عدم المس بالملكية وإمارة المسلمين، فقد قدم الريسوني استقالته من الحركة ووقف الأمر عند هذا الحد. لكن ما عبر عنه الريسوني بجرأة، يتداوله المغاربة ونخبهم السياسية والثقافية سرا أو شفويا.

ويقترح الريسوني في غياب أمير المؤمنين إقامة مجلس أعلى للإفتاء، ويرتبط بالقضيتين طبيعة الملكية في المغرب: هل تكون ملكية دستورية فعلا، أي أن الملك يملك ولا يحكم ويكون حكما بين السلطات وليس السلطة الأقوى؟ وللوصول إلى الملكية الدستورية الحقة طريق نضالي طويل أمام المغاربة، فليس الملك من يرغب وحده في الاحتفاظ بالصلاحيات شبه المطلقة التي يملكها، بل إن هناك أحزابا وقوى سياسية واقتصادية ونخبا سياسية وثقافية تريد ذلك، إما انطلاقا من مصالحها التي ازدهرت في ظل النظام، أو من قيم القدسية الواسعة الانتشار والعميقة الجذور لخليفة العلويين لدى الفئات الشعبية. وهناك من يطرح أن إمارة الملك للمسلمين هي سد منيع أمام الفكر والنفوذ السلفي.

أما الجانب الآخر من الإصلاح السياسي المطلوب، فهو إصلاح الحياة الحزبية، إذ عبر الملك محمد السادس في خطاب العرش عن تبرمه من الحياة الحزبية الحالية وأوضاع الأحزاب. ويدرك المراقب بسهولة تشرذم الأحزاب المغربية، وغياب الهوية الطبقية والأيديولوجية والفكرية لغالبيتها، وظاهرة الانشقاقات والانسلاخات المتتالية لأسباب مصلحية، وما يعرف بالأحزاب الإدارية، أي تلك التي فبركها حكم الحسن الثاني ومكنها من أجهزة الدولة ليواجه بها الأحزاب الوطنية الحقيقية مثل الاستقلال والاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية. كما ظهرت أحزاب مناطقية وعرقية والأحزاب الملتفة حول الزعيم الفرد ذي النفوذ المناطقي والمصلحي.

ولا شك أن فشل الأحزاب الكبرى في الاتفاق على الوزير الأول وتشكيلة الوزارة بعد أول انتخابات نيابية في عهد الملك محمد السادس، هو الذي دفعه إلى تكليف التكنوقراطي إدريس جطو بمنصب الوزير الأول وتشكيل الوزارة التي ضمت عددا من التكنوقراط إلى جانب ممثلي الأحزاب الكبرى، كما أن استمرار تناحر هذه الأحزاب هو الذي دفع الملك إلى توجيه الوزير الأول، إلى إعادة تشكيل الوزارة حديثا لتضم المزيد من التكنوقراط على حساب الحزبيين. وتبقى الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني تحت هيمنة الدولة المخزنية وسطوتها. وفي ظل غياب مشروع وطني للإصلاح الشامل، ما يجعل مشروع الإصلاح عرضة للتقلبات

إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"

العدد 1042 - الأربعاء 13 يوليو 2005م الموافق 06 جمادى الآخرة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً