العدد 1042 - الأربعاء 13 يوليو 2005م الموافق 06 جمادى الآخرة 1426هـ

مدينة الشر

قصة قصيرة - حسن الصحاف 

تحديث: 12 مايو 2017

لقد انتصرت أخيرا، نعم انتصرت أخيرا وها أنا هارب من الزريبة التعيسة ومن فيها في عتمة الليل.

سنوات طويلة قضيتها في الزريبة لا أبارحها وذلك لسبب وقح جدا يتمثل في أن المسئول عن الزريبة أراد ذلك. فقد أقفل بوجهي كل منافذ الزريبة من نوافذ وأبواب ولم يكتفي بذلك العقاب المجحف بحقي بل تمادى في غياهب طاغوته وعنفوان سكرة غروره وسحب عني في أحايين كثيرة سطل الماء القذر الذي كان يضعه لي ويسد الثقب الذي يصل فيه نهيقي إلى مسمعه في الجدار الفاصل بين الزريبة ومكان سكنه بطابوقة كبيرة كنت أرفسها مرارا فتسقط وأسمعه نهيقي ولكن كان ولسبب ما لا يسمع ولا نهقة واحدة من نهيقي

كان أطرش على ما يبدو، ثم انه زاد من وقاحته فقال للحمير التي تمرح وتسرح كما يحلو لها أن تراقبني مراقبة شديدة وقد اخترعت طريقة شيطانية لرصد تحركاتي فلو انتقلت من مكان إلى مكان في الزريبة فإنها تعرف في اللحظة والساعة مكاني وتأتي لتعيدني إلى حيث يجب أن أكون. لقد حاولت مرارا الهروب من الزريبة ولكن في كل مرة أحاول فيها الهروب يلقى القبض علي، حمير مثلي تقبض علي وتعود بي إلى الزريبة كما لو أن شيئا لم يحدث. دام الحال على ما هو عليه سنين طويلة، مسئول الزريبة يضايقني بجميع الطرق وأنا أستنبط الطرق المبدعة لكي أنفذ بجلدي من حماقته التي لا تعادلها حماقة. ولكن لسبب ما لا يعلم انه أحمق بحق، فهو لذلك ظل على حاله يسد المنافذ بطرقه المعهودة كما الاسطوانة المشروخة وبقيت أنا على حالي أحاول الهروب بطرق إبداعية حميرية.

وفي ليلة أراد القدر وهو الذي يصنع الحمير لا الحمير هي التي تصنع الأقدار أن يمد لي يد العون فكلف العواصف والأمطار والبروق بأن تهب لنجدتي وتجعل الزريبة وما حولها في حيص بيص: أمطار غزيرة وعواصف رعدية رملية تعمي البصر وبروق تشق كل حي يمشي على قدمين أو أربع إلى نصفين لو أراد أن يتحرك في تلك الساعة إلى أي مكان. دام حال العواصف والأمطار طويلا وقد اختبأ كل شيء في مكان آمن عدى العواصف والأمطار. وفي لحظة لا تعادلها لحظة في التاريخ الحميري بان لي فيها الفرج وإذا بالعواصف والبروق والأمطار تقف وتشير علي أن أخرج من هذه الزريبة: "أخرج، أخرج، أخرج وبسرعة". فإذا بحوافري تلك التي أنهكها الزمن تحمل جسدي المرهق وتفر بي بعيدا بعد أن قفزت قفزة عظيمة فوق سور الزريبة وجريت كما تجري أسرع الحيوانات إلى أين لست أدري، أرى الطريق أمامي فقط مليئة بما طوحت به العواصف وأتجنب الضار منها. كم جريت لا علم لي ولكني أعلم اني جريت طويلا وبسرعة فائقة إلى أن حل ظلام دامس وسكينة مخيفة فدفنت جسدي المرهق في مكان لا أعلم ما هو. وحال أن دغدغت بصري خيوط الشمس تنبهت مذعورا خوفا من أن يلقى علي القبض من الحمير التي تراقبني منذ أمد، وبعد أن تأكدت من عدم وجودها بقربي خوفا على حياتهم من العواصف والبروق والأمطار وهذه حال الجبناء من الحمير تلفت يمينا وشمالا وتأكدت بعد تفحص شامل للمكان والزمان ألا وجود لهم إطلاقا فبدأت بالمسير على مهل حتى وصلت إلى بوابة مدينة كبيرة كتب عليها "مدينة الشر" فعجبت من هذه التسمية وحدثت نفسي: لابد في الأمر سر. فتشت في أروقة عقلي علني أجد جوابا لهذا المسمى: "مدينة الشر" فدققت النظر مليا فلم تسعفني ذاكرتي ولا عقلي في معرفة السبب فمضيت في مسيري وإذا أنا أمام مبنى ضخم وقد علته لافتة كبيرة كتب عليها "مركز الشر الوطني" فعجبت أيما عجب وداخت تلابيب مخي من دون أن اعرف السبب في ذلك المسمى فنظرت مليا حولي فرأيت عند ذلك المبنى رجالا يلبسون ملابس رسمية وعليهم قبعات مدججون بالسلاح فعزفت عن حقي في المعرفة وتابعت المسير وإذا بي في شارع طويل تحمل لافتته مسمى: "شارع الشر" فذعرت حقيقة فكل شيء في هذه المدينة شر في شر وخاطبت نفسي وقلت على أية حال فالوضع أفضل مما هو في الزريبة فتابعت المسير حتى وصلت إلى ميدان فيه الطيور تنعم بماء عذب وغذاء محبب إلي وهو الشعير شاركتهم تلك الحبيبات من الشعير وأرسلت إلى حنجرتي التي تحجرت من فعل العطش قطرات من ذلك الماء المحبوس في حفر صغيرة ثم أرسلت بصري حولي وإذا بمسمى الميدان يصيبني بالخيبة: "ميدان الشر" فتحركت ألف الميدان علني أجد في تجوالي ما يحل هذا اللغز الكبير لهذه المدينة فلم أجد فولجت إلى زقاق ضيق وإذا بباب كبير يدخله رجال لفحتهم الشمس وصبغتهم بصبغة غريبة كتب عليه "الشر الوطنية للتعمير" فسألت نفسي كيف يكون الشر للتعمير فلم أجد جوابا فحرت أيما حيرة وسدت في وجهي أبواب البصيرة وكاد الإحباط يصيبني وكدت ألوم نفسي على الهروب من الزريبة غير أني استجمعت قواي وعزمت على معرفة السر مهما كلفني الأمر. فسرت رافع الرأس أبصر في العناوين الكبيرة والصغيرة فإذا بها تشير إلى الشيء ذاته "مؤسسة الشر للألعاب"، "محكمة الشر الكبرى" "شركة الشر العظيم" "منزل الشر سين" "مقهى الشر" وغيرها من المسميات وعلى المنوال نفسه.

وبينما أنا في تيهاني وضياعي باحثا عن حل لهذا اللغز الكبير وأنا أرى جميع من في هذه المدينة من حمير وغيرهم من كائنات حية تعيش بسعادة وحرية ليس مثلها حرية وسعادة أرى وعلى مسافة غير بعيدة مني حمارا آخر تبدو على قسمات وجهه السعادة وتظهر فرائصه علامات المرح فتحركت نحوه مسرعا الخطى فحال أن رآني سعد هو الآخر برؤية حمار آخر في هذه المدينة وبعد سين وجيم عرف أني حمار غريب على هذه المدينة وتبين من دون أن أحادثه بشأن الأسماء التي أراها ويراها هو معي أني واقع في حيرة من أمرها فهون علي الأمر وقال إن العاصفة التي مرت على المدينة أسقطت كثيرا من الحروف من المسميات كما تسقط ورقة التوت لتشكف عن المستور فـ "مدينة الشرف" سقط عنها حرف الفاء فأضحت: "مدينة الشر" وعلى هذا المنوال قال أترك لمخيلتك أن تعرف حقيقة الأسماء الأخرى. ضحكنا كثيرا من دون أن ننهق نهقة واحدة ثم توادعنا على أمل اللقاء. أنا سعيد جدا في "مدينة الشر" كما هو حال بقية الحمير التي مثلي الهاربة من نير زرائبها





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً