ليس هذا عنوان رواية خيالية، أو مسرحية درامية، أو فلم حزين، بل هو عين الواقع المرير في مملكة البحرين.
دلوني على جزيرة في العالم بلا شطآن، حتى ولو كانت في الأساطير، وحتى لو كانت في عالم الفكر والتنظير، أو الماهيات اللامتناهية أو التأطير، وحين تفعلون ربما يستقر لي قرار، وتهدأ عاصفة نفسي، وتستكين روحي فلا تطمح إلى أمر غير معقول، أو تجنح إلى ما لا يكون مقبولا... أليس هذا ما نتجرعه في هذه الجزيرة؟
فوربك، من غدى يرى شطآن حيه أو قريته أو مدينته اليوم بعد أن كانت فجاجا واسعة يهيم فيها الملتاعون، ويسترزق عبرها الكادحون كنت أرقب عينيه وهو يحدق في تلك المياه الزرقاء التي امتلأت أتربة بفعل الردم اليومي، وحين أشار بإصبعه إلى تلك "الحظر" التي يمتلكها عن أجداده وأبيه بدت منه لوعة حرى، فنفث نفسا من أعماق روحه، وصفق راحا براح، ثم قال بنبرات حسرة: كل شيء راح. وكتبت تلك الصحيفة هذه الكلمات وقرأها الناس ولكنها اختصرت واختزلت آهات من الأفواه الحرى لا نعلم ما مصيرها، وسنوات من الرفقة مع هذا البحر قد لف مستقبلها الغموض. وحياة بكل أفراحها وأتراحها يعلمها الله وحده.
حين تعمد إلى شيء من الراحة وأنت تعيش على ظهر جزيرة يحيط بها الماء من كل جانب فسريعا - بالبداهة - ستثور في ذهنك فكرة الذهاب للشاطئ، فللشواطئ أنس لا يضاهيه أي شيء آخر، وحين يضغطك الواقع المعاش لا تفكر إلا أن تحمل أولادك مع بعض حاجياتهم التي يعبثون بها في الرمال لتلقي بنفسك على أقرب شاطئ حتى تنسى شيئا من همومك وما أكثرها في بلدنا، تلك - بظني - مسألة طبيعية، وقد لا يختلف عليها اثنان، سيما ونحن لسنا في بلد تكسو الخضرة محياه، فبلد المليون نخلة قد تبخر من غير رجعة. وشخصيا في قريتي كنت أجوس خلال هذه الأرتال من النخيل صباح مساء، فكانت بحق سوادا لا يكاد يبين لها نهاية ذلك كان قبل ما يربو على العشرين سنة، أما الآن فإن أهل المال رأوا أن النخيل لا خير فيها فمسحوا الأرض عن بكرة أبيها، هذا ملكهم الخاص وهم يتصرفون فيه كما يشاءون من أنا حتى أحاسبهم؟! وما كنت أظنها مزرعة أبي لسنين اكتشفت حين وعيت أنها ضمان. وأن أبي - وهو يزرعها من ذلك الحين لحد اليوم مدة أربعين سنة ويزيد - يدفع مقابل ما يزرع لمن تملكوا الأرض بغير وجه حق وحرموا أهلها ومن بها أحق، فحنقت أيما حنق، وداخلني شعور بالظلم والقهر، وقلت: بأي حق يدفع أبي لهذا الشخص؟ من يعطيه حقا في أن يترهل ويترف من عرق أبي وأمثاله؟ومن يسوغ له أن يمتص دم أبي الذي يشقى صبح مساء في أن يوفر لنا لقمة الخبز؟ ومن...؟ وكيف...؟ وطفقت أبحث عن إجابة فلم يسعفني عقلي البسيط إلا أنه ما تحدث وكتب فيه باستفاضة جدنا الكواكبي في سفره الرائع المعروف طبائع الاستبداد تلك قصة كل إنسان يعيش على هذه الجزيرة، وكل لها في نفسه سياق، ولكن الأصل واحد.
قال لي ناشط في حقوق الإنسان مرة: القانون الدولي يمنع تملك السواحل. فقلت له: وهل نحن بدع من الدول؟ وهل إنسانهم غير إنساننا؟ فهو هناك يرفع عقيرته حين يعتدى على حقه فتقف كل منظمات الأرض معه، وهنا آلاف تطالب ولا أحد يصغي إليها... تستقيل هناك وزارات لأنها فرطت في استحقاق ما وتجاوزت بالخطأ على حق ما، ولا يتحرك لها ساكن هنا ولو تحولت الأرض إلى يباب مادامت جيوبهم عامرة وأموالهم في الحفظ والصون!
لو رسمت سياجا على خريطة وطني اليوم أترى يعترض أحد على هذا الرسم؟ قطعا، لا، فبلدي سيج من كل جانب. هذا ساحلي الذي قضيت طفولتي وفتوتي وشبابي أرتع فيه وألعب أغلق من كل حدب وصوب، وحين أراني صاحبي الخريطة المسجلة والرسمية من السجل العقاري رأيت الممالك والإقطاعيات بأم عينها، بل صرخت في وجهي، أرض بمقدار مئات الأمتار المربعة ملك لمتنفذ، فصرخت بدوري في وجه صاحبي: قد كان أجدادنا يمتلكون هذه الأراضي بالحيازة، والحيازة سند الملكية كما يقولون في القانون، والأرض لمن عمرها كما يقول الفقهاء، فلم تستكثر عليهم الدولة أن يمتلكوها، ويبقوا يبيعون أعمارهم وتحدودب ظهورهم وهم يعطون الغلة إلى من ملك بغير وجه حق؟وغضبت من أعماق أعماقي وقلت صائحا سنكون سباة في عقول أبنائنا إن فرطنا في ساحلنا هذا. أين نمضي حين تدلهم بنا الخطوب؟ ورد علي صاحبي باستغراب وتسليم مطلق: البحرين كلها هكذا جزيرة: بلا شطآن!
إبراهيم الماجد
العدد 1040 - الإثنين 11 يوليو 2005م الموافق 04 جمادى الآخرة 1426هـ