العدد 1040 - الإثنين 11 يوليو 2005م الموافق 04 جمادى الآخرة 1426هـ

اللحم المر... قراءة هادئة في الخلافات القروية!

محمد حسن العرادي comments [at] alwasatnews.com

منذ مدة وأنا أفكر في الكتابة حول الخلافات المنتشرة في الكثير من قرى مملكتنا الغالية، لكن وجودي في قرية تشهد الكثير من هذه الخلافات كان يقف عائقا بيني وبين أن أسبر أغوار هذا الموضوع، وقد كان القلق يساورني حول ما أستطيع أن أكتبه أو أقوله في موضوع كان ولايزال يشكل بالنسبة لي هاجسا شخصيا منذ أكثر من ربع قرن من الزمان.

وقد كان من أسباب هذا القلق أن لا أستطيع الكتابة بعيدا عن ميولي وعاطفتي، أو أن أتمكن من التغلب على هذه وتلك، لكني أجد نفسي عرضة لنقد غير منصف يقلب كل الحقائق ويشكك في كل ما أكتب، وبعد كثير من التردد، قررت أن أقتحم هذا الموضوع تاركا للقراء الأعزاء أن يتخذوا المواقف التي يرونها مناسبة، سواء كانت منصفة أو منتقدة أو لا مبالية.

والحقيقة التي أرجو ألا تغيب عن بال القراء، وهم يتنقلون بين سطور هذا المقال، هي أن الهدف من اختيار هذا الموضوع بالذات هو المساهمة في تخفيف التوتر الذي يسود مجتمعات معظم قرى مملكة البحرين حول قضايا وموضوعات أبسط ما يمكن أن نصفها به هو أنها تافهة.

أسئلة كثيرة أجدها تلح علي دائما من قبيل، لماذا كل هذه الخلافات التي تشهدها القرى؟ أين يقف المثقفون وصناع الرأي في مجتمعنا؟ لماذا يمرون على هذه الموضوعات وكأنها لا تعنيهم؟ هل هم خائفون إلى هذه الدرجة؟ أم إنهم لا مبالون وغير مكترثين إلى هذه الدرجة أيضا؟ أم تراهم قد انسلخوا من مجتمعاتهم وصاروا يعيشون في مجتمعات صنعها الخيال والأمنيات الخاصة؟

كثيرا ما تستوقفني هذه الأسئلة، وأنا أشاهد وأعايش الكثير من أبناء البحرين فأراهم يتحدثون عما يحدث في مختلف دول العالم، لكنهم لا يتكلمون أبدا بشأن ما يحدث في الشارع الذي يقطنون فيه، يتكلمون عن التفجيرات في لبنان والعراق، ويبحثون في مستقبل العالم بعد سقوط بغداد، ويتناولون موازين القوى في الشرق الأوسط بعد أن تحصل الجمهورية الإسلامية في إيران على التكنولوجيا النووية، ثم يحللون الأسباب التي أدت إلى سقوط الشيخ علي أكبر هاشمي رفسنجاني للمرة الثانية في الانتخابات الإيرانية، لكنهم أبدا، يلتزمون الصمت عندما يتعلق الأمر بما يحدث عندنا!.

أتذكر الكثير منهم وهم يبذلون أقصى ما في وسعهم من جهد ويقدمون أفضل ما يمتلكون من رؤى حول الديمقراطية التي تريد وزيرة الخارجية الأميركية كوندليزا رايس أن تفرضها على العالم العربي، وكيف أن أميركا اكتشفت بعد فوات الأوان أنها كانت ذات سياسة خرقاء وحمقاء في آن واحد، حين دأبت على دعم الأنظمة الدكتاتورية والقمعية المتسلطة في منطقتنا العربية أكثر من 60 عاما، ما أدى إلى أن أيا من شعوبنا العربية لم يذق طعم الديمقراطية والحرية، بل ولم نتعرف حتى على لونها أو رائحتها، فلقد كنا نسمع عنها فقط؟

لكنني ويا للعجب أعرف هؤلاء الذين يدافعون عن حقنا في الحياة الحرة والكريمة، وعن حرية الإنسان في التعبير عن آرائه، وعن أهمية وجود الرأي والرأي الآخر، ثم سرعان ما تجدهم صامتين عن أهم ما يجب أن يتحدثوا فيه، ترى هل يمكن أن يكون الإنسان مؤمنا بأهمية الانفتاح والإصلاح السياسي، وهو يمارس انغلاقا حول أهم القضايا التي تحيط به وتلتصق بحياته يوميا.

كيف يستطيع هؤلاء النوم، وهم يرون قرانا كل يوم تتمزق بسبب ومن دون سبب؟ لماذا نراهم يلوذون بصمت القبور ويتكلمون بلغة "خل الطبق مستور" لماذا لا يتقدمون لقول كلمة صادقة في زمان استشرى فيه الكذب حتى وصل إلى غرف النوم والطعام؟ ثمة خطأ ما لم نستطع التوصل إلى كنهه ولسنا نعرف من المسئول عنه، خطأ قاتل أرعب الكثير من مثقفينا حتى باتوا في معظم الأحيان يطبقون القاعدة المعروفة "إذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب".

لكن الغريب في الأمر أن معظم المثقفين هم من النوع "المشحرر"، ونراهم في كثير من الأحيان ملطوعين على أبواب البنوك والمؤسسات المالية طلبا لقرض يستعينون به على تسيير أمورهم الحياتية، حتى تجد أن الديون تلاحقهم إلى القبر، لكنهم في معظم الأحوال يفضلون التريث والانتظار، على هامش الحياة، لعل أحدا يأتي ليغير الحال إلى أفضل مما هو عليه.

"لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، كل الناس والمثقفون منهم خصوصا يعرفون هذه الآية ويحفظونها عن ظهر قلب، بل ويستخدمونها في مواقع عدة عندما يكون الحديث عن بلدان غير بلادنا، بل نراهم يستذبحون للاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية والحكم والأمثال وأبيات الشعر العربي الفصيح، حتى يثبتوا بالقول القاطع صحة مواقفهم وآرائهم، لكن هذه الروح القتالية تصاب بفتور وهبوط اضطراري عندما يصل الحديث إلى الشأن الخاص بالقرية أو المجتمع الذي نعيش فيه.

ولاننا نسعى دائما لأن نتفهم الأسباب التي تجعل هؤلاء المثقفين في وضع لا يحسدون عليه عند التعرض للموضوعات الخاصة، فإننا سنحاول التعرض لبعض ما يثار حول هذه الموضوعات، فلربما نتمكن من معرفة الداء، ثم ننجح في البحث عن الدواء ونتعاون في وضع الحلول المناسبة لهذه الظاهرة الغريبة.

عندما تكلمت مع أحدهم عن أسباب عزوفه عن العمل التطوعي في القرية، والموانع التي تحول بينه وبين أن يباشر دوره في خدمة مجتمع القرية، هالني ما سمعت من رد وتبرير، قال لي ببساطة: "لقد تنازلنا عن العمل التطوعي وتركناه لمن يرغب في أن يتلقى الطعنات من كل جانب ومكان"، ذلك أن طبيعة المجتمع البحريني هذه الأيام هو من النوع الذي لا يرحم ولا يدع رحمة الله تصل إلى العباد بعيدا عن دائرة سيطرته، من هنا فقد ابتعدت لأنني لا أريد أن أوجع دماغي مع ناس فاضين، أمثال فلان الذي يريد أن يسيطر على النادي، وعلان الذي يريد أن يمسك بالقرار في الصندوق الخيري، وأخينا الذي يريد أن يفرض رأيه على كل الناس، ويعلمهم كيف يمشون، وكيف يتكلمون، وكيف يبنون علاقاتهم، وما هي نوعية الأصدقاء الذين يجب أن يصاحبهم، باختصار: يعني على رأي صاحبنا فإنه من الناس الذين طقت كبدهم من العمل التطوعي.

وهو يرى أن الابتعاد عن هذه الأعمال سيكفيه ويعفيه من وجع الرأس والدخول في مهاترات مع من ينظرون للمواقف التي يؤيدها والأفكار التي ينادي بها من منظار الخلاف والاختلاف، مؤكدا أن الخلاف في الرأي ما عاد يدار بالطريقة المعتادة، قائلا إنه قد تعود على أن هناك هامشا من المساحة للاختلاف مع الآخرين لا يصل إلى حد القطيعة، ولا يتحول إلى حرب ضروس.

أما اليوم فإن أبسط ما يمكن أن يسفر عنه الخلاف في الرأي مع أي شخص أو جماعة هو أن يتم وضع المختلف معهم في خانة الأعداء والخونة والعملاء والمارقين، والخارجين عن الدين، المنقلبين على المجتمع، البعيدين عن الأخلاق، ولا بأس أن تضاف لهم بعض الصفات التي يعف اللسان عن قولها والقلم عن كتابتها!

أجل، إنه الخوف الذي يلازم المثقفين والمتصدين للعمل التطوعي، حين تتحول حياتهم وشخصياتهم وسلوكهم وعلاقاتهم الاجتماعية إلى هدف للتسقيط والازدراء، وحين تشن عليهم حملات منظمة من قبل أنصاف المتعلمين والكتبة الذين يريدون السيطرة على جميع الأمور بالطيب أو بالقوة، وحين تكون المؤسسات التطوعية مرتعا خصبا لهذا النوع من الأعمال الاقصائية البعيدة عن التفكير في المصلحة العامة.

والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة، لمصلحة من يتم حرق الكثير من الشخصيات الاجتماعية وإرغامها على الابتعاد عن العمل المؤسساتي، وخصوصا في مجتمعات القرى التي هي بحاجة فعلية إلى كل جهد حتى تتغلب على الجهل والتخلف الذي تعيشه منذ سنين؟

وفي الجانب الآخر، لماذا يهرب المثقفون من المواجهة، ويلجأون إلى أبسط الحلول الابتعاد عن الساحة خوفا على سمعتهم والمكاسب التي حققوها؟ ولماذا يذهبون إلى الخيارات غير المكلفة؟ وإذا كانوا يعتبرون أنفسهم أبناء مجتمعاتهم فإنهم حتما مطالبون بمعايشة هذه المجتمعات، والعمل على المساهمة في تغييرها بشكل يؤدي إلى زيادة التوافق بين أهل هذه المجتمعات.

يجب أن يتوقف هذا الهدر في الطاقات والجهود، ولابد لنا من البحث عن طرق مناسبة لإدارة خلافاتنا بشكل لا يبعد الكوادر عن تولي مسئولياتها المطلوبة للمساهمة في تطوير مجتمعاتنا، ولابد من التفكير في أن هؤلاء الأبناء المثقفين الذين هم نتاج المجتمعات التي يعيشون بها، قد كلفوا هذه المجتمعات الشيء الكثير حتى وصلوا إلى ما هم عليه من علم وتجربة وخبرة ودراية.

إننا مطالبون بالتوقف عن النهش في لحوم بعضنا بعضا، كما أننا مطالبون بإعادة بناء الثقة المفقودة بيننا حتى نكون كمن يبني بنيانا ثم يهدمه ويعيد بناءه من دون أن يستفيد منه. نعم، لقد تعبت مجتمعاتنا حتى أنتجت الكثير من العقول في الكثير من المجالات العلمية والعملية، لكننا صرنا نؤمن بأن هذه العقول لا تصلح إلا إلى الوظائف التي تعمل فيها رسميا، وبالتالي أبعدناها عن ميدان العمل الاجتماعي والتطوعي والشعبي، وقدمنا بدلا منها من لا ناقة له ولا جمل.

إن العمل التطوعي اليوم بحاجة إلى تخصص، وبحاجة إلى كوادر تتمتع بمهنية عالية وقدرة على إدارة المشروعات والبرامج والفعاليات الخيرية والاجتماعية والثقافية، حتى تكون النتائج مدروسة ومبنية على أسس سليمة. أجل، نحن بحاجة إلى إعادة مأسسة العمل التطوعي وإفساح المجال للطاقات المتمكنة لتقديم أفضل ما لديها.

لقد آن الأوان أن نتوقف عن أكل اللحم المر الذي هو لحم أبنائنا في مختلف القرى والمجتمعات داخل البحرين، وأصبح لزاما علينا أن نعيد الاعتبار لهذه الشخصيات، والا نسعى إلى إقصائهم وإبعادهم تحت مسميات مختلفة

إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"

العدد 1040 - الإثنين 11 يوليو 2005م الموافق 04 جمادى الآخرة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً