العدد 1040 - الإثنين 11 يوليو 2005م الموافق 04 جمادى الآخرة 1426هـ

الأعداء أذكياء غير عقلاء

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

نستطيع أن نجرم ما وسعنا التجريم وندين بكل اللغات ما حصل في وسط لندن يوم الخميس الماضي، ولكننا لا نستطيع أن نتجاهل أن "الأعداء أذكياء". لقد استطاعوا أن يضللوا حتى سكوتلنديارد الموصوفة بالدقة والمتابعة من بين قوى الأمن في العالم، ويقتلوا عددا من المسافرين الأبرياء في مواصلات لندن تحت الأرض وفوق الأرض، ولم تكن لندن الآمنة بغافلة عن احتمال مثل هذا منذ فترة طويلة ولكنه وقع، ولا نستطيع أن نتجاهل أن الحدث وقع أثناء اجتماع القمة الدولية في بريطانيا، ولم يكن متزامنا مع الانتخابات، كما تم قبل أكثر من عام في مدريد. فلو تم قبل الانتخابات البريطانية الشهر الماضي لحاز حزب العمال أكثرية المقاعد، لأن حسابهم أن الشعب البريطاني على عكس الشعب الاسباني بعيد عن العاطفة المباشرة والسريعة، فالحسابات تبدو أدق مما يتصور البعض.

قبل لوم الآخر وتدفق سيل الإدانات العاطفية، علينا أن نحاول التعرف على الأسباب التي تجعل من بعض الناس يقومون بمثل هذا العمل وهو قتل الأبرياء بدم بارد؟ إنهم كثر، ويبدو أن مصادر تمويلهم البشرية ليست بالقليلة.

فلم يعد سرا انه منذ سنوات أصبحت أجهزة الأمن الغربية تفتح عيونها واسعة على كل شاردة وواردة قادمة من الشرق المنكوب، ولم يعد سرا أن "سمة الدخول" لبلدان أوروبا لم تعد سهلة أو ميسورة لأبناء الشرق الأوسط، كما أن ملفات سكوتلنديارد ليست مغلقة على مفاهيم ومقولات تقليدية، بل هي مفتوحة على كل الاحتمالات.

لماذا حدث ما حدث؟

لا يستقيم التحليل إن تناسينا أن هناك في الإعلام العربي غير المنشور، وأقصد به إعلام الإشاعة وإعلام التحليلات غير المنشورة إلا في الانترنت، موجة من التعاطف ملحوظة تأييدا لما حدث، هذا التأييد أو الموافقة الضمنية منطلقا من مقولة أن بريطانيا ومعها أميركا، قامت وتقوم بإذلال العرب، ويشار هنا إلى ما يحدث في منطقتين، في الأولى للقوتين علاقة بشكل غير مباشر فيما يحدث وهي فلسطين، وفي الأخرى بشكل مباشر وهي العراق.

والحقيقة تلك لها وجهان، وجه صحيح، وربما تعرفه بريطانيا أكثر من المسئولين الأميركيين، وهو أن الموضوع الفلسطيني موضوع مركزي في المعادلة التي تدفع إلى الإرهاب، أو هو ذريعة قوية يمكن تسويقها في بلدان الشرق الأوسط للحشد والتجنيد جراء ما يلاقيه الفلسطينيون من ابتذال ومهانة، والثاني وان اختلف حوله البعض، وأقصد العراق، مازال يشكل هاجسا لدى كثيرين في غياب استراتيجية واضحة المعالم لما تريده القوتان هناك.

العراق اليوم في شبه حرب أهلية، والعراق اليوم له حكومة منتخبة أمام العالم، مع ذلك فان الولايات المتحدة تصدر منها إشارات متناقضة كل التناقض تجاه ما يحدث هناك. فتارة تقف بقوة خلف الحكومة المنتخبة وتؤيدها على نطاق عالمي، وتارة أخرى تفاوض "بعض القوى" خارج الحكومة، وهي ليست قوى معارضة بالمعنى التقليدي، بل لها علاقة بحوادث العنف المتفشية في العراق، وكثير منها قتل عشوائي، فلا الحكومة العراقية عارفة بما تريد دوائر الولايات المتحدة وبريطانيا تحديدا، كما أن أهل العنف في العراق يبشرون أنفسهم بقرب رحيل أميركا، وعلامة ذلك تفاوضها معهم وهو دليل ضعف لا دليل قوة. هذا المشهد يترك كثيرين في العراق أولا وخارجه يضعون رجلهم الأولى في راحلة القوة المسيطرة اليوم، والرجل الأخرى في راحلة القوة التي يمكن أن تسود.

انتشار الإرهاب له خلطة متعددة المداخل، هو ليس فكرا، بل فكر معجون ببيئة سياسية واقتصادية، وغياب التصور الأوضح للسياسات الغربية في هذه المنطقة كانت أحد العوامل المهيئة لبيئة الإرهاب.

أما العامل الثاني في الخلطة، ولا أقول الأخير، هو غياب استراتيجية للتطوير والتنمية في منطقتنا العربية، لخص رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير مواصفاتها مباشرة بعد الإعلان عن تفجيرات لندن الأخيرة، فقال: "إن ما حدث تم باسم الإسلام، الإسلام والمسلمون منه براء". هذا التعبير يجب أن يوضع تحت المجهر، خصوصا في ضوء ما يحدث في العراق، وخصوصا على خلفية اغتيال السفير المصري بتهمة "الردة"، وهو الرجل التقي، وفي ضوء تصريحات أبومحمد المقدسي الذي خرج من السجن الأردني ليعود إليه من جديد أخيرا، وعلى خلفية كل الحوادث في العشر سنوات الماضية على الأقل.

على رغم ما استقر اليوم لدى كثيرين أن موضوع الدين لدى "الجهاديين" بأشكال الطيف الذي ينتمون اليها، ليس الخلاف فيه على محتوى العقيدة الإسلامية، ولكنه اختلاف في التفسير السياسي، فهم في ذلك مستخدمون لنصوص يكيفونها على مرمى أهدافهم، ولكن الموضوع في صلبه هو "سياسي" بامتياز، مغلفا بنصوص دينية.

توظيف الدين كان وسيظل معنا كمسلمين لفترة طويلة، الفروق بين المنتمين للعقيدة تكمن في البرامج المطروحة، من اعتدال يدعو إليه البعض، إلى غلو وتشدد يمارسه آخرون، والإشكالية التي طرحت نفسها على شريحة واسعة من المهتمين بالشأن العام العربي، هي تلك المساحة المشتركة بين "المتدينين" وبين "المتشددين السياسيين"، فهناك حركات إسلامية لها طابع سياسي "سلمي" يختلط بها عدد من الدعاة السياسيين سرعان ما يستفيدون من الأرضية الممهدة بعناية كي يجندوا بعض الشرائح، خصوصا من الشباب، في مجال التشدد، ولعل المقابلة التلفزيونية مع أبومحمد المقدسي قد قدمت لنا صيرورة تكاد تكون متشابهة، فقد قدم بصفته "معتدلا"، ثم تبين أن الفرق بينه وبين تلميذه الزرقاوي هو فرق في الدرجة وليس فرقا في النوع. وتكاد السيرة أن تكرر نفسها، فمن تجمعات في بر الكويت في الثمانينات مختلطا بالمعتدلين! إلى دخول في دهاليز التشدد، إلى تجنيد يفضي إلى تطرف ثم اغتيالات عشوائية.

ألم يحن الوقت للتيقن من أن "أحزاب السياسية الإسلامية" هي أحزاب سياسية، إلا أنها من دون استخدام غطاء الدين تفقد الجاذبية في التجنيد أو حتى القدرة عليه، فكل من تحزب تحت تلك الراية هو في الحقيقة يضر بجموع المسلمين، لأن السياسة متحركة والعقيدة ثابتة، ودليلنا على ذلك الانشقاقات والخلافات غير المتناهية، بين الرفاق، ولعل أكبر حزب سياسي إسلامي، هو اليوم الإسلاميون السياسيون السابقون!

وهم بناء دولة إسلامية تعيد ما كان، هو وهم موجود في عقول القوى غير الحديثة، فالأجندة لدى هؤلاء هي أجندة سياسية أفضل وصف ايجابي لها أنها خيالية ومثالية، وربما عبثية إلى حد كبير.

ما نواجهه هو أن هذه الأجندة "المكفرة"، "الاعتزالية"، هي شوكة المواجهة، أمام تشابك معقد من المشكلات التي ليس لها أفق حل حتى الساعة، غير التنديد من جهة والقتل من جهة أخرى، وبعض هذه الجماعات وان امتلك الوسائل والعزم افتقد التكتيك، كما حدث في لندن نهاية الأسبوع الماضي، والتي كانت، أي لندن، حتى الأمس ملجأ معقولا لمن يريد الفرار سلما بجلده.

عدم القراءة المتأنية من الجماعات الكبرى للإسلام السياسي، للواقع الموضوعي السياسي والاجتماعي المحلي والعالمي، وعدم تقديمها للبدائل الواقعية التي تستوعب المكان وتعيش الزمان بكل متغيراته وتناقضاته، جعلها أسيرة إيديولوجية ضيقة، غرزت رجلها في أماكن كثيرة من أفغانستان إلى السودان، مرورا بعدد من المجتمعات الإسلامية والعربية، سواء كانت في الحكم أو المعارضة، كما عرضت أطرافها للانخراط في دموية عبثية تأتي بسوء العاقبة على كل معتنقي الديانة السمحة، وبسبب طبيعة نشأتها في العصر الحديث تحولت من "إحياء" كما يجب أن تكون، إلى "نكوص" كما هو في الواقع، واستنزفت طاقات لو أحسن توجيهها لكان حالنا أفضل، وهي طاقات لا ينقصها الذكاء، إنما تفتقد إلى العقلانية

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 1040 - الإثنين 11 يوليو 2005م الموافق 04 جمادى الآخرة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً